شيخ القضاة ينعي الاستقلال الضائع “نص استقالة المستشار يحيي الرفاعي”
السادة الأساتذة الأجلاء النقيب و أعضاء مجلس النقابة العامة للمحامين بمصر
1- أحييكم أطيب تحية مقرونة بعميق الاحترام، فأنتم – كما أردتم و أرادت مصر – عقل المحاماة وقلب المحامين ولسانهم دفاها عن حريتهم وحريتها، وقدوة للمحامين العرب في سائر أوطانهم، ومشاركون أساسيون للسلطة القضائية في تحقيق العدالة، وفي تأكيد مبدأ سيادة القانون واستقلال هذه السلطة وفعالياتها، وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم وحرماتهم.
2- ومن هنا، و إذ قررت الكف عن أداء رسالة المحاماة، اعتبارا من اليوم – نزولا على اعتبارات صحية لا قبل لي بتحملها – فقد رأيت من واجبي بهذه المناسبة، أن أتوجه بالشكر إلى هذا الحصن العتيد من حصون الحريات – ممثلا في أشخاصكم – على كريم وفادته لي طيلة أربعين شهرا ( منذ 31/6/1969 حتى 21/12/1972 ) كنت قد أقصيت خلالها – بموجب قرارات مذبحة القضاء – عن أداء رسالتي القضائية، بما فيها أمانتي العامة لنادي القضاة، وهو والنقابة العامة للمحامين شريكان في الدفاع عن استقلال القضاء والقضاة، وبعد أن عدت لمنصبي بحكم محكمة النقض، واستنفدت سنوات خدمتي القضائية ببلوغ السن في منتصف 1991 كان لي شرف العودة إلى محراب المحاماة حتى اليوم.
3- ومن ثم فإنني أرى اليوم من حق مصر في عنقي، وفي أعناقكم، أن نُجري معا مقارنة بين ما كان عليه حال القضاء والمحاماة في مصر قبل تلك المذبحة من احترام وتقدير وثقة مطلقة – سواء في نظر شعب مصر وقطانها أجمعين، أو في نظر حكومات العالم بأسره وشعوبه – وبين ما نرى ونسمع ونقرأ اليوم من تجريح ونقد مريرين بما فيهما من مساس جسيم بكرامة مصر وقضائها وقضاتها ومحاميها، وبما يكاد معه السكوت عن الحق الآن، أن يبلغ مبلغ الخيانة.
4- ذلك بأن حكومات جمهورياتنا المتعاقبة، و إن وضعت في دساتيرها نصوصا أساسية بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته، وتحظر وتؤثم التدخل في أية قضية أو أي شأن من شئونهم من جانب أية سلطة أو أي شخص– فإن هذه الحكومات ذاتها لم تتوقف – طول هذه السنين – عن النص في القوانين المنظمة للسلطة القضائية وغيرها على ما يجرد تلك النصوص من مضمونها تماما، بل ويخالفها بنصوص صريحة، تصادر بها لحساب السلطة التنفيذية معظم أصول هذا الاستقلال وقواعده وضماناته، كما تسند بها بعض اختصاصات القضاء الطبيعي إلى غيره، وتصدر قرارات وتصرفات واقعية أخرى من خلال وزارة العدل – وهي أحد فروع السلطة التنفيذية – تسيطر بها على إرادة رجال السلطة القضائية وشئونهم، بل و أحكامهم القضائية (!).
5- فقد نصت المادة (64) من الدستور على أن {سيادة القانون أساس الحكم في الدولة}. كما نصت المادة (65) منه على أن { تخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات}، ونصت المادة (166) كذلك على أن { القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضايا، أو في شئون العدالة}.
6- وفد أبرزت هذه النصوص حقيقة استقلال القضاء والقضاة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، فحرمت عليهما التدخل في القضايا أو في شئون العدالة، وحالت بذلك بينها وبين القضاء، حتى تكون له قيمته وجدواه، و إلا فما قيمة نصوص الدستور وما قيمة نصوص القوانين، وما قيمة الحقوق والحريات، إذا لم يقم على تطبيق هذه النصوص قضاة مستقلون ومحامون أحرار، وتسهر على حماية هذه الحرية وذلك الاستقلال، نقابة محامين واعية – وناد – أو بمعنى أصرح نقابة عامة للقضاة– وذلك كله لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم؟.
7- ومن ثم، فقد حرصت المذكرة الإيضاحية لقانون استقلال القضاء رقم 66 لسنة 1943 على التنويه بأن نصوص الدستور {لم تنشئ حقيقة استقلال القضاء، فمن طبيعة القضاء أن يكون مستقلا، والأصل فيه أن يكون كذلك، وكل مساس بهذا الأصل من شأنه أن يعبث بجلال القضاء، وكل تدخل في عمل القضاء من أي سلطة من السلطتين، يُخل بميزان العدل، ويقوض دعائم الحكم، فالعدل كما قيل قديما أساس الملك، ، ومن الحق أن يتساوى – أمام قدس القضاء – أصغر شخص في الدولة بأكبر حاكم فيها، و أن ترعى الجميع العدالة}.
8- ولذلك أيضا فقد نصت المادة (الثامنة) من ذلك القانون – المقابلة للمادة (68) من قانون السلطة القضائية القائم على أن { تحدد مرتبات القضاة بجميع درجاتهم وفقا للجدول الملحق بهذا القانون، ولا يصح أن يقرر لأحد منهم مرتب بصفة شخصية ولا مرتب إضافي من أي نوع كان، أو أن يعامل معاملة استثنائية بأية صورة}، واستهدف هذا النص وغيره، تقنين ما هو سائد في سائر القوانين المقارنة للدول الديموقراطية، من وضع نظام إداري ومالي خاص بالقضاة يحفظ استقلالهم ويحقق المساواة فيما بينهم، ويمكنهم من مقاومة الضغوط التي قد تمارس عليهم، ويحول دون وقوعهم أسرى لمصالحهم الشخصية.
9- ذلك أن تشريعات الدول الديموقراطية حقا وصدقا، أرست أصول النظام المالي والإداري لاستقلال القضاء، كما رددت هذه الأصول نصوص المواثيق والاتفاقيات الدولية والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان ولاستقلال القضاء. فقد نصت المادة (العاشرة) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1948 على أن { لكل إنسان – على قدم المساواة التامة مع الآخرين – الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظرا منصفا وعلنيا، للفصل في حقوقه والتزاماته، وفي أي تهمة جزائية توجه إليه…}، كما أكد الإعلان العالمي لاستقلال القضاء الصادر بمونتريال سنة 1983 ضرورة أن{يضمن القانون كفاية مرتبات القضاة المناسبة لمسئوليات مناصبهم وكرامتهم، و إعادة تسوية الرواتب والمعاشات بانتظام وفق معدلات ارتفاع الأسعار}.
10- كذلك، وللعلة ذاتها، فقد تواضعت التشريعات المقارنة للدول الديموقراطية على أنه ” لا يجوز أن ينشأ بين القضاة – ولا بين أعضاء النيابة فيما يتولونه من سلطات التحقيق– أي نوع من التبعية الإدارية مهما اختلفت درجاتهم أو مستويات محاكمهم، فكلهم قضاة مستقلون لا يتبع أحد منهم أحدًا مهما علت درجته أو ارتفع مقامه، إنما تكون التبعية لجمعيات القضاة أنفسهم بمحاكمهم، وفي توزيع العمل فيما بينهم فحسب، ولا تكون هذه التبعية لأي فرد منهم ولا من غيرهم، لأن الرياسة الإدارية بطبيعتها تـُفسد مضمون العمل مهما تقيد نطاقها القانوني، كما أن التبعية الرياسية تنطوي على معاني القهر والإخضاع وتحد من قدرة المرؤوسين على الاستقلال برأيهم، والنأي عن التأثر بتعليمات الرؤساء.
11- ولقد عبر الإعلان العالمي لاستقلال القضاء عن تلك المعاني بما نص عليه من وجوب {استقلال القضاة تجاه زملائهم وتجاه رؤسائهم، وعدم مساس أي تسلسل تنظيمي في القضاء بحق القاضي في إعطاء قراره بحرية تامة، وألا يكون للسلطة التنفيذية أية رقابة على الوظائف القضائية، ولا القيام بأي عمل أو تعطيل القيام بأي عمل يؤدي إلى استبعاد الحل القضائي لأحد النزاعات، أو تعطيل التنفيذ السليم لقرار إحدى المحاكم}. ( المبدأ 2/231).
12- ولئن أفصحت المذكرة الإيضاحية لقانون استقلال القضاء (رقم 66 لسنة 1943) عن أن ما جاء به من ضمانات تشريعية لاستقلال القضاء هو مجرد خطوة على طريق هذا الاستقلال سوف تتبعها خطوات، إلا أن الحكومات المتعاقبة أخذت تنتقص من هذه الضمانات، وتتحكم في شئون رجال القضاء و إرادتهم وحريتهم، بنصوص تشريعية وتطبيقات عملية مخالفة للدستور سلبت بها مضمون ذلك الاستقلال وجدواه حتى صار ذلك من العلم العام:
( أ) ومن ذلك نص المادة(9/4) من قانون السلطة القضائية المعدل بالقانون 35 لسنة 1984، والذي صارت بموجبه السلطة التنفيذية – ممثلة في شخص وزير العدل– تنفرد بالكلمة النهائية في ندب وتجديد ندب من تختارهم هي وحدها من مستشاري محاكم الاستئناف ليكونوا (لأي عدد من السنين) مجرد تابعين لها في رياسة المحاكم الابتدائية في الإشراف على الرؤساء والقضاة، بل و أحكامهم وقراراتهم القضائية والولائية، وسائر العاملين في هذه المحاكم، بل وتنبيههم إلى ما يقع منهم مخالفا لمقتضيات وظائفهم(!) كما اختص هؤلاء الرؤساء في الوقت نفسه برياسة الدوائر القضائية في المحكمة ذاتها!.
( ب) ومع تقادم العهد بهؤلاء الرؤساء في مناصبهم ومزاياهم المالية والعينية، تنامت سلطاتهم المختلطة – سعة وعمقا – حتى امتدت آثارها إلى العمل القضائي ذاته، واهتزت الثقة العامة فيه خاصة حين يتم تعيين بعضهم محافظين(!) وحين تتضمن محاضر توزيع العمل بالجمعيات العمومية لبعض المحاكم دعوة كافة القضاة من أعضائها لما معناه ضرورة عرض الدعاوى الهامة –المنظورة أمامهم– على رئيس المحكمة للمداولة معه فور حجزها للحكم وقبل المداولة فيها(!) وفي ذلك ما فيه من إثم جنائي وقضائي تنص عليهما أحكام الدستور و القانون!.
( ج) بل لقد دأب بعض وزراء العدل على التردد على بعض المحاكم، وفي رفقتهم (أحيانا) رئيس مجلس القضاء الأعلى – أي رئيس محكمة النقض – وغيره من كبار رجال القضاء، حيث يستقبلون بالزغاريد، فينثر الوزير المكافآت بسخاء، دون أن يكون لهذا العبث أي أصل من شيم قضاء مصر وقضاتها ولا من قيمهم ولا من تقاليدهم في أي يوم من الأيام.د ومن ذلك أنه يجوز أيضا، وبكل أسف، نص المادة (78) من القانون ذاته (الذي أنشئت به ضمن إدارات وزارة العدل التابعة لمكتب الوزير) إدارة للتفتيش القضائي على أعمال القضاة والرؤساء بالمحاكم، وتقدير أهليتهم وصلاحيتهم ومساءلتهم وفحص وتحقيق الشكاوى التي تقدم ضدهم، واقتراح ندبهم ونقلهم وترقيتهم أو تخطيهم…الخ. وفي كل ذلك الذي يجري تحت سيطرة الوزير قضاء على استقلال القضاء والقضاة وسلب لإرادتهم، وهز – بل وتضييع– الثقة العامة فيهم.
( هـ) ومن ذلك كذلك، نصوص المواد (93) ، (125) وما بعدها التي تخول الوزير وبعض تابعيه سلطات إدارية وتأديبية على هؤلاء القضاة.(!).
(و) ومن ذلك أيضا، تطبيقات عملية من العلم العام تم الضرب فيها عرض الحائط بالضمانات التشريعية التي تحول دون تحكم السلطة التنفيذية من خلال وزارة العدل، في مرتباتهم ومخصصاتهم– بالتقتير حينا وبالتفريط أو الإفراط أحيانا– حتى أفسدت النظام المالي الخاص بهم بل وبمجلس قضائهم الأعلى نفسه (!) وأطلقت يدها في التمييز بينهم، سواء في توزيع ما سُمي بالحوافز، ومكافآت العمل الإضافي، ودورات التحكيم والكسب غير المشروع، أو في سائر أنواع المعاملة المالية والعلاجية والاجتماعية والمزايا العينية الأخرى، وذلك بصور شتى، وبالمخالفة لصريح نص المادة(68) من ذلك القانون، ولصريح نصوص جدول المرتبات والمخصصات الملحق بقانونهم– وبما يفتح الأبواب لاحتوائهم ومصادرة أرادتهم، خاصة من خلال بدعة مكاتب المتابعة، وفيما يمس مصالح السلطة التنفيذية ومصالح رجالها وتابعيهم (!) وذلك استغلالا منها لتجميدها هذه المرتبات والمخصصات المقررة في ذلك الجدول منذ عشرات السنين، ودون أي حرص على أن يكون تنظيم كل ذلك بالقانون حتى لا تتقيد به (!)
. بل لقد بلغ الأمر في ذلك إلى حد احتفاظ الوزارة بدفتر شيكات رسمي تصرف منه بإرادتها المنفردة، أي مبلغ لمن يشاء من رجال القضاء ! دون أية قواعد، ولا رقابة، ولا مساءلة ولا حساب(!).
( ي) بل لقد عادت الوزارة لما كانت تجري عليه في مستهل القرن الماضي إبان سيطرة الإنجليز عليها لضمان مصالحهم – من إصدار التعليمات والمنشورات لرجال القضاء (!) حتى أنها أفردت أحد هذه المنشورات للتنبيه على رؤساء المحاكم والقضاة بموافاتها بصور من صحف الدعاوى المدنية والجنائية آلتي تُرفع على شخصيات هامة مسئولة– فور تقديمها– ولم يزل هذا المنشور معمولا به في المحاكم جميعها حتى اليوم، على نحو يترك أثره الطبيعي على إرادة القضاة عند الفصل في هذه القضايا. (!).
13- ومن خلال ذلك كله وغيره، وبموجب اختصاصات إدارة التفتيش القضائي، ورؤساء المحاكم – بل والتنازل غير المشروع الذي تتضمنه جميع محاضر الجمعيات العمومية للمحاكم عن أهم اختصاصاتها لرؤسائها – ساد الاعتقاد بأن الوزارة تتحكم دائما في توزيع العمل أمام الدوائر بالهوى والاعتبارات الشخصية التي تثير التساؤلات– وليس بقواعد موضوعية عامة مجردة كما كان عليه العمل طوال السنين الماضية حتى طال ذلك محكمة النقض ذاتها لأول مرة في تاريخها – وكل ذلك بالمخالفة لنص المادة (30) من قانون السلطة القضائية، وهو ما ترسخ معه لدي الناس أن الوزارة صارت تهيمن على القضاء والقضاة والقضايا حتى صارت جميع الأحكام الصادرة فيما يسمى بقضايا الرأي العام يتم نقضها دوما، و أكثر من مرة، بل وتتعرض لانتقادات رؤساء الدول والحكومات والصحف الأجنبية حسبما سلف البيان، وبما نجم عنه تجريد سائر المحاكم والقضاة من الشعور بالاستقلال، ومن شل قدرتهم الكاملة على مقاومة الضغوط التي قد تمارس عليهم، إذ خلقت تلك الظواهر لكل منهم مصلحة ظاهرة في اتقاء غضب السلطة التنفيذية عليه –ممثلة في وزارة العدل–، وهو ما لا يستطيع معه القاضي إصدار الحكم في أية قضية من تلك القضايا بغير ميل حتى لو لم يضغط عليه أحد، وكل ما تقدم صار بكل أسف من العلم العام، وهز الثقة العامة في المحاكم بل ضيعها، – خاصة عند تكوين كلمتها في تلك القضايا بالذات، وجعلها تبدو – سواء في نظر المصريين أو الأجانب– كمجرد مرافق إدارية تابعة للسلطة التنفيذية فعلا، وانسحب ذلك بداهة – ومن باب أولى– على النيابة العامة للأسباب ذاتها ولإصدارها منشورات أمعن في الخروج على الدستور والقانون، ولما تقوم عليه هذه النيابة من جمع بين سلطتي التحقيق والاتهام، مقترن بتبعية إدارية تدريجية ساحقة لإرادة المرؤوسين فيها، فضلا عن احتفائها الشاذ بشكاوى وتقارير الأجهزة الأمنية والرقابة الإدارية، بل وبعض شكاوى الأفراد التي قد يتمكنون من تقديمها لأحد كبار المسئولين وتحقيقها في يوم تقديمها ذاته، وهو ما انعدمت معه في نظر الناس قاطبة كافة ضمانات المساواة بين المواطنين أمام القانون والقضاء، وهو ما انتهى إلى ضياع سمعة القضاء المصري في نظر العالم أجمع حتى صرنا مضغة في الأفواه، بما فيها أفواه الرئيس الأمريكي الحالي، وأكثر من رئيس وزراء لإسرائيل (!).
14- يؤكد ذلك كله، أن النص في الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة التاسعة من قانون السلطة القضائية على أن تكون رياسة المحكمة الابتدائية بطريق الندب { من بين مستشاري محاكم الاستئناف بقرار من وزير العدل– بعد أخذ رأي مجلس القضاء الأعلى– لمدة سنة على الأكثر قابلة للتجديد}- وليس بعد موافقة المجلس – {وأن يكون بكل محكمة ابتدائية عدد كاف من الدوائر يرأس كلا منها رئيس المحكمة أو أحد الرؤساء بها}، يدل على أن السلطة التنفيذية صارت لها الكلمة النهائية في هذا الندب المختلط بما يترتب عليه من تخويل المستشار المختار بمعرفة الوزارة وحدها ولايتي الإدارة والقضاء مع رياسة دوائر المحكمة، وفي وقت واحد، إلى جانب ما يتولاه من اختصاصات أخرى رقابية و إدارية وتأديبية على جميع القضاة والرؤساء بالمحكمة وسائر موظفيها وعمالها (!) ناهيك عن اختصاصاته الانتخابية المستحدثة وغيرها.
15- كذلك، فإن النص في المادة (369) على أن {يكون للوزير أن يعيد للجمعيات العامة للمحاكم الابتدائية ولجان الشئون الوقتية بها ما لا يرى الموافقة عليه من قراراتها لإعادة النظر فيها}، والنص في المادة (78) وما بعدها على أن {تشكل بوزارة العدل إدارة للتفتيش القضائي على أعمال القضاة والرؤساء بالمحاكم الابتدائية ..
ويضع وزير العدل لائحة للتفتيش القضائي { و أخرى لتفتيش النيابات..} ويخطر وزير العدل من يُقدر بدرجة متوسط أو أقل من المتوسط من رجال القضاء والنيابة العامة بدرجة كفايته، وذلك بمجرد انتهاء إدارة التفتيش المختصة من تقرير كفايته..
كما يُخطر من حل دورهم في الترقية ولم تشملهم، بأسباب تخطيهم.. (م79).. ويختص الوزير كذلك بتعيين القضايا التي تنظر وعدد الجلسات و أيام انعقادها ومن يقوم بالعمل أثناء العطلة القضائية ( م 87 و88) ويختص أيضا بتنظيم الخدمات الصحية والاجتماعية لرجال القضاء والنيابة..
وللقاضي أو عضو النيابة الذي يصاب بجرح أو بمرض بسبب أداء وظيفته استرداد مصاريف العلاج.. بقرار من الوزير..
وللوزير حق طلب إحالة القاضي للمعاش أو نقله لوظيفة غير قضائية (م91و111و129) وحق الإشراف على جميع المحاكم والقضاة و أعضاء النيابة العامة، ( م93و125) ولرئيس كل محكمة حق الإشراف على القضاة التابعين لها، وللوزير طلب وقف القاضي أو عضو النيابة (م97) وحق تنبيه الرؤساء بالمحاكم الابتدائية وقضاتها و أعضاء النيابة العامة كتابة بل وشفاهة إلى ما يقع منهم مخالفا لمقتضيات وظائفهم..( م 94و126)- ولرئيس المحكمة هذا الحق أيضا.
و إذا تكررت المخالفة أو استمرت رُفعت الدعوى التأديبية.. وتقام هذه الدعوى –ودعوى الصلاحية– بطلب من الوزير بناء على تحقيق جنائي أو إداري يتولاه أحد نواب رئيس محكمة النقض أو رئيس محكمة استئناف (يندبه الوزير) أو مستشار من إدارة التفتيش القضائي..(م99) والنص كذلك وارد في المواد (5)،(6)،(8)، (9)،(11)،(12)،(13)،(29)،(58)،(62)،(76)،(92)،(110) ، (116)،(125) من القانون ذاته–
وفي قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 الصادر بتنظيم الخدمات الصحية والاجتماعية التي يقدمها الصندوق المنشأ بالقانون 36 لسنة 1975 وسائر القرارات المعدلة– على اختصاصات أخرى للوزير نفسه، كل ذلك يتضمن تخويل السلطة التنفيذية سلطات رقابية وإدارية ومالية وتأديبية تتدخل بها في صميم شئون العدالة والقضاء والقضاة بالمخالفة الصارخة لمؤدى ومقتضى النص في الدستور على {مبدأ استقلال القضاء والقضاة كضمان أساسي للحقوق والحريات، وعدم جواز تدخل أية سلطة في القضايا أو في شئون العدالة} وبالمخالفة للقواعد والضمانات الأساسية المتعارف عليها لتنظيم هذا الاستقلال في التشريعات المقارنة لسائر الدول الديموقراطية على نحو ما سلف البيان – وهو المعيار الذي استقرت عليه أحكام المحكمة الدستورية العليا في رقابة المشروعية الدستورية – وهو ما أظهر في نظر الكافة أنه أعدم فاعلية النيابة العامة والمحاكم كضمان لتحقيق العدالة خاصة في قضايا الحقوق والحريات المتعلقة بخصوم الشخصيات الهامة المسئولة، وهذه القواعد– بإجماع الفقه المقارن– في القمة من قواعد النظام العام، بوصفها الضمان الدستوري لحماية الحقوق والحريات، ومخالفتها تستتبع انعدام إجراءات التحقيق والمحاكمة برمتها( قارن مشروع تعديل قانون السلة القضائية ( ومذكرته الإيضاحية) الذي وضعته الجمعية العمومية لقضاة مصر منذ عام 1991، والمنشور بمجلة القضاة الصادرة اليوم، وما تضمنته في صدرها من مقالات تؤكد كل ما سلف بما نرجو أن يحظى باهتمام مجلس النقابة الموقر).
16- على أنه مما يستوقف النظر أن يكون هذا هو حال القضاء والقضاة والمتقاضين في مصر اليوم، ولا يكون هم الحكومة في هذه الأيام العصيبة إلا تعيين المرأة في وظائف القضاء(!) تُرى أيكون ذلك منها مجرد رضوخ لتغيير هوية المصريين والعبث بأصول مجتمعهم، وحرمان أبنائهم من التربية الصحيحة الكاملة؟ أم هو لمجرد صرف النظر عما يطالب به الكافة من استقلال القضاء وإصلاح أحواله حقا وصدقا؟ .
17- وكانت اللجان الخمس التي يتكون منها مؤتمر العدالة الأول (المعقود في عام 1986- والذي افتتحه الرئيس محمد حسني مبارك قد ناقشت كل ذلك في صورته التطبيقية التي كانت سائدة آنذاك، وأصدرت هذه اللجان كافة التوصيات الواجبة لعلاج سائر مشكلات تعدد التشريع وقصوره، وتنافره وغموضه، وتعدد جهات القضاء، وما ينبغي اتخاذه لتيسير إجراءات التقاضي المدنية والجنائية وتصحيح نظام القضاء وشئون رجاله ودورهم في الانتخابات العامة.
واقترن كل ذلك بتوصية علنية أساسية من قضاة مصر طالبوا فيها علنا عند افتتاح المؤتمر بإنهاء حالة الطوارئ المعلنة في كافة أرجاء الوطن، منذ بداية الجمهورية القائمة، ودون أي مبرر، وبما صار سببا آخر لتجريد نظام الحكم القائم من مشروعيته في نظر العالم أجمع، وفي ذلك خطر عظيم على مستقبل البلاد، خاصة في هذه الأيام التي نحتاج فيها إلى إشراك جميع المواطنين إشراكا حقيقيا في تولي زمام الأمور، حتى تتوقف ألسنة حكام وفلاسفة العالم من حولنا عن تناول حياتنا وحرياتنا وتشريعاتنا وسلطاتنا القضائية و أحكامها بما لا يقبله أي مصري غيور على وطنه وقضائه وقضاته. وثائق وتوصيات المؤتمر ملحقة بالكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية الذي أصدره نادي القضاة في عام 1991).
18- و إذ مضت سنوات طويلة على وضع تلك التوصيات، ووضع مشروع تعديل السلطة القضائية المشار إليه، واستجدت خلال تلك السنوات تطبيقات صارخة في مخالفة الدستور وتضييع حقوق وضمانات المواطنين والمحامين والقضاة على نحو ما سلف البيان، فقد آن الأوان لوضع مشروع قانون شامل لتوحيد السلطة القضائية بكافة جهاتها، وتحقيق الاستقلال المالي والإداري الواجب لها، وبحيث يشمل هذا المشروع كافة القواعد المنظمة لجهات القضاء العادي والإداري والدستوري، وكذا القواعد المنظمة لدور القضاء والقضاة في الإشراف على نزاهة الانتخابات العامة وضمان صحة نتائجها في التعبير عن الإرادة الصحيحة للناخبين، وبحيث ينص فيه على أن يكون الاختصاص بكل من القضاء الدستوري، وقضاء النقض، وقضاء المحكمة الإدارية العليا منوطا بدوائر متخصصة لكل نوع منها وتابعة لمحكمة عليا واحدة، وأن يكون اختصاص محاكم القضاء الإداري ومحاكم الاستئناف منوطا بدوائر متخصصة بكل نوع منها كذلك وتابعة لمحاكم واحدة أيضا، وفي نظام قضائي موحد، وأن ينص في مشروع هذا القانون كذلك على حظر ندب رجال القضاء للعمل في أية جهة أخرى سواء بمقابل أو دون مقابل، وحظر إصدار أي تعليمات لهم من أي شخص أو جهة أو مجلس – لأن القضاة يطبقون الدستور والقانون ولا يخضعون لأية تعليمات من أحد ولو كان منهم– ومع النص فيه كذلك على إلغاء قيام النيابة العامة باختصاصات قاضي التحقيق– وهو ما تستوجبه ضرورة الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام الجنائيين – وغير ذلك من أمور جوهرية وتفصيلية أخرى لتنظيم توحيد القضاء العادي وقضاء مجلس الدولة والمحكمة الدستورية، وإدماج النيابة الإدارية في النيابة العامة. و إعادة الاختصاص بالفتوى والمشورة إلى هيئة قضايا الدولة، بما قد يرى معه مجلس النقابة الموقر الاشتراك مع نادي القضاة بتشكيل لجنة بمعرفة المجلسين لوضع هذا القانون الموحد تمهيدا لمناقشته وعرضه على الجمعيتين العموميتين للنقابة والنادي، والعمل بعد ذلك على استصداره بالصيغة التي تقررها الجمعيتان العموميتان تمهيدا لتقديمه إلى السلطات المختصة في الدولة لإقراره و إصداره، وقد يرى المجلسان من ناحية أخرى تنظيم مؤتمر جديد للعدالة من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير.
19- لذلك كله، وإبراء لذمتي أمام الله والتاريخ، وأمام المجلس الموقر، رأيت أن أضع كل ما تقدم بين يدي السادة الأجلاء النقيب و أعضاء مجلس النقابة العامة للمحامين، ليروا فيه رأيهم، لفرط ما أعانيه وسائر الناس من الشعور بالظلم الفادح والخطر المحيق بالبلاد، والله أسأل أن يوفق المجلس الموقر والمحامين جميعهم– إلى تحريك هذا الموقف الآسن إلى ما فيه خير البلاد والعباد من نهضة تشريعية وقضائية طال انتظارها دون جدوى حتى الآن، وفي ذلك الماء الآسن ما فيه من خطر عظيم على مستقبل مصر ونظام الحكم فيها.
20- يقول الكواكبي (إنها قولة حق وصيحة في وادِ، إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غدا بالأوتاد) وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين
يحيى الرفاعي
المحامي والرئيس الشرفي لنادي القضاة
تحريرا في 31/12/2002·
نسخة لكل من السادة الأجلاء رئيس و أعضاء لجنة طلبات قيد المحامين واعتزالهم، للتفضل بنقل اسم كاتب هذه السطور إلى جدول غير المشتغلين اعتبارا من اليوم.·
نسخة لكل من السادة الأجلاء رئيس و أعضاء نادي القضاة للتفضل بالنظر في قبول إعادة قيد الطالب ضمن أعضائه
—————————————————————————————–
*بمناسبة مرور 20 عاما على رسالته ، رسالة المستشار الجليل يحيى الرفاعي ،
هذا الرجل الذي وهب حياته دفاعا عن استقلال القضاء ودفاعا عن حق المواطنين في قضاء لا تتدخل فيه السلطة التنفيذية.
لم نجد خير من رسالته التي ينعى فيها استقلال القضاء ، ويعلن عن اعتزاله العمل بالمحاماة ورؤيته لمواطن الخلل في النظام القضائي وما يعانيه وسائر الناس من الشعور بالظلم الفادح والخطر المحيق بالبلاد.