عن برد المعتقل وصقيع الوطن
بقلم: أحمد دومة
بامتداد جسدي أصبت لمرّات عدّة من أثر الثورة، التعذيب، والمعتقل، تتفاقم جميعها تأثّرًا بالبرد، وتعجز المسكّنات عن تهوين وجعها ولو قليلاً، رغم كوني في بيت أرتدي ملابس ثقيلة ولديّ غطاء كاف وأغلق كل النوافذ.
في المعتقل خاصة منذ عام 2021، كانوا منعوا تمامًا الملابس الثقيلة، الأغطية المناسبة، المياه الساخنة وكل ما قد يقي البرد بقرار. كنّا ننام على الأرض -كما شاهدتم في التسريبات الأخيرة من معتقل بدر- ولم نمتلك القدرة على إغلاق النوافذ إن أردنا؛ كان قرارا بالإيذاء المتعمّد ومازال ساريًا بحق الكل في المعتقل بمن فيهم المرضى وكبار السنّ.
أصابتني رجفة جوّانيّة من البرد ومازالت تلازمني للآن، ولا شيء يُفلح لاتّقائها، وطالما منّيتً نفسي في ليالي الاعتقال، أنّ الدفء قادمٌ مع الحريّة؛ ولم يكن دفءٌ-في صقيع الوطن، ولا كانت حريّة.
ليست مفاجأة أن الانتكاسات المتعلّقة بالحقوق الأساسيّة للمعتقلين بدأت بشكل منظّم جماعي تزامنًا مع الاستراتيجيّة -الوطنيّة لحقوق الإنسان، ثم الحوار الوطني وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي (لم يحصل أي معتقل على حقوقه كاملة، أو اقترب من ذلك، لكن مرّت فترات كان فيها شيء من الحقوق المستقرّة).
فمنذ إطلاق هذه الاستراتيجيّة/الأسطورة تسارعت وتيرة الانتهاكات والاعتداءات، وتقلّصت الحقوق لحدّها الأدنى الذي لم يسبق أن انحدرت له في أي فترة حكم أو ظرف سياسي منذ بداية الألفيّة (وقد اعتقلتني كافّة سلطات الحكم التي عاصرتها بلا استثناء، مكثت فيهم سنين طوالا، بنحو 14سجنًا مركزيًّا وعامًا وليمان ومقر احتجاز غير قانوني).
وقد وصل الحال لخوض إضرابات والتعرّض للضرب والاعتداءات المتكررة والتعذيب، فقط لنحصل على بطانية إضافيّة في شتاء المعتقل الجارح (شاهدت معتقلين شيوخا -سياسيين كبارا- يبكون من ألم البرد ولم يُسمح لهم بما يدفئهم بطول الشتاء الأخير).
لم يكن حدوث هذه الانتكاسة بالتزامن مع الاستراتيجيّة إيّاها، والحوار إيّاه مصادفةً؛ بل عَرَض كاشف لعلّات عدّة:
– تصفير معادلة الحقوق السياسيّة تمامًا والاكتفاء بالجري في المكان عند حدود حقوق العيش، ونسف السقوف -شديدة التدنّي أصلاً- في أذهان الجميع؛ لإعادة رسم التموضعات على طاولة التواصل، ليس فقط بمنطق المساومة على الرهائن (كلّ رأس بثمنه)، إنّما لما يسبقه من حيث تقديم أثمان باهظة لتقبل السلطة مبدأ المساومة أصلاً على فلان أو علّان واستنزافك، كوسيط أو صاحب مصلحة في السعي لإنقاذ حياتهم بمحاولة الوصول لما قبل الحد الأدنى من حقّهم في العيش ولو داخل المعتقل (النضال لإيقاف منع الدواء أو إجراء عمليّة جراحيّة أو إدخال طعام ملائم أو ملابس، ناهيك عن الكتب والرسائل وغيرها من وسائل الاطلاع على العالم الخارجي ولو من نافذة أجهزاتيّة)؛
ومن ثمّ لن تجرؤ على طلب رؤوس الكبار والمخالفين، وستشعر بإنجاز هائل للإفراج عن بعض الرفاق من هنا وهناك، باعتباره آخر ما يمكن الوصول له.
– توريط الكلّ، إلا قليلاً، في دور الوسيط المنحاز “عسكري المراسلة”، وحرقه كورقة في معسكره السابق، رغم فرضيّة تمثيله لهذا المعسكر في موقعه كوسيط وهو ما يحقق مكسبين للسلطة -وخسارتين لنا بالطبع- أولهما تحييد هذا الوسيط (المعارض السابق) وتجنّب إزعاجاته كمعارض، وتفريغ طاقته بأداء الدور الجديد، وثانيهما: اتخاذه كحائط صد في موقع وسط بينهم وبين معسكر المعارضة، فيتلقّى هو النقد والاتهام والهجوم والقطيعة بديلاً عن السلطة.
وقبل هذا وذاك؛ إحداث شقّ في صفوف المعارضة المشقوقة أصلاً (ينطبق الأمر على الحركة الحقوقيّة بذات القدر والأعراض)، تُسهّل على السلطة التعامل مع ما تم استيعابه منها، كلٌّ على قدر استيعابه ذاك، كما تسهّل تصفية البقيّة الراديكاليّة بعد عزلها وشيطنتها ووصمها بـ”رفض الحوار” و”السعي للصدام” أو حتى “تنفيذ أجندات أجنبيّة”- وهو ما تتلقّفه الألسنة المستوعَبة وتعيد إنتاجه في بيئاتها، ويُصبح المعتقل والممنوع والمطارد هو ذلك الشخص/الكيان السيئ الذي لا يسمع الكلام والحريص على البقاء معتقلاً أو ممنوعًا أو مطاردًا رغم محاولات الدولة الحثيثة للإفراج عنه أو “تقنين” نشاطه.
– تجريف الشارع السياسي والحقوقي من أي احتمال للقيام والتنظيم والعمل، أو في أقلّ تقدير: تأخير حدوث ذلك قدر الإمكان، باستمرار حالة الادعاء وإعادة تدوير ذات الأدوات بذات الوشوش في كلّ موقف مع اختلافات طفيفة في العناوين، والضغط على كلّ تيار بسحب امتيازاته ومنحها لتيار منافس وتوزيع الأدوار تحت سقوف التوقّع “الأجهزاتي” المرسوم سلفًا. وهكذا؛عملية تشبه مصارعة الثيران (ولا ثيران في الحلبة، فقط أبقار مذعورة).
واستمرار هذا الادّعاء يلزمه الإفراج بين الحين والآخر عن بضعة أشخاص (تحت شعار قوائم العفو) بعدد أدنى بكثير مما كان يتم الإفراج عنه سابقًا بشكل دوري من المحاكم والنيابات بعد إغلاق هذا الباب تمامًا.
كما يلزمه السماح بين الحين والآخر بمؤتمر هنا، وبيان هناك، وكأنّ حراكًا ما يحدث، يمتص شيئًا من الغضب ويفرّغ الطاقة بما لا يضرّ ولا يخرج عن النصّ.
– خلل إدراكي لدى جيلين، الأوّل غير مدرك بأنّه تجاوز وقت الصلاحية منذ زمن؛ فترهّل خطابه كما ترهّلت حراكاته “المدّعاة”، والثاني غير مدرك لحقيقة مسئوليّته-كجيل وسط، عليه استلام التركة كاملة (في لحظة منسحقة… أعرف) بما فيها من تبعات ومهام خطابيّة وتنظيميّة وحركيّة.
أخيرًا: أعود فأؤكّد على مفصليّة هذه اللحظة، تزامنًا مع الإبادة والمقاومة المذهلين في فلسطين، باعتبارها فرصة الجميع لإعادة ترتيب الصفوف، والانطلاق -كما كلّ مرّة، من قضيّة فلسطين ومقاومتها لبناء خطاب/حراك سياسي مصري، يحاول مداواة مآس وجرائم وشقاقات العقد الأخير، وطرح تصوّرات جادّة واعية لمصر التي نريد، والتي يقينًا لا تشبه هذا الوحل الذي نغرق به في شيء.
——
مقال للصحفي والشاعر وسجين الرأي السابق ، احمد دومة
منشور بجريدة العربي ، وإعادة النشر بموافقة الكاتب
الرابط الأصلي