يناير 1977.. لما قامت مصر قومة بعد ما ظنوها نومة دروس مستفادة من بروفة الثورة
كتب: جمال عيد
شهدت مصر بين تحررها عام 1952 وثورتها العظيمة في 2011 أحداثًا شعبيةً جسامًا؛ الوحدة مع سوريا ومظاهرات الطلبة في 1968، ومظاهرات وإضرابات الطبقة العاملة عام 1975، وأحداث الأمن المركزي عام 1986. لكن تبقى انتفاضة يناير 1977 هي الحدث الاجتماعي والسياسي الأوسع والأكثر أهمية حتى من ثورة يناير، ويعتبرها البعض بروفة لها.
هي “انتفاضة الخبز” كما يسميها أنصار العدالة الاجتماعية وأحزاب اليسار والناصريون وجماهير الطبقة العاملة، أو “انتفاضة الحرامية” كما وصفها نظام السادات ومن بعده مبارك والتيارات الدينية اليمينية وكُتَّاب وصحفيو السلطة.
الطريق إلى الانتفاضة
لم يكد المصريون يفيقون من ألم وفرحة حرب أكتوبر 1973، حتى فاجأهم السادات في العام التالي بالقرارات والقوانين التي دشنت عهد “الانفتاح”، بهدف جلب المزيد من الأموال والعملة الصعبة، حيث الاتجاه غربًا نحو الولايات المتحدة وأوروبا، بدلًا من المعسكر الشرقي الذي كان يقوده آنذاك الاتحاد السوفيتي، فضلًا عن فتح الباب على مصرعيه للدول النفطية، لا سيما الخليجية، سواء للاستثمار والتصنيع في أغلب المشروعات، أو بتصدير العمالة إليها.
وبعيدًا عن النوايا والتصريحات عن الأماني التي كان السادات يُمنِّي نفسه ونظامه بها، بدأ التضخم يعرف طريقه إلى المجتمع بنسب مرتفعة، حتى وصل نحو 13% عام 1977، بعد أن كان 4% في عامي 1973 و1974.
كان تجاهل التصنيع والمشاريع الإنتاجية واللجوء للمشاريع الاستهلاكية و”الطفيلية” هو الأداء الشائع خلال هذه الفترة، بحيث التهم الكثير من الموارد الأساسية التي كانت مصر تعتمد عليها مثل السياحة وقناة السويس والمعونات الخارجية، بالإضافة إلى المورد الجديد الذي صُدِّرت العمالة المصرية لأجله؛ وهو تحويلات المصريين بالخارج.
هذا الانفتاح خلق في مصر طبقة استهلاكية أو “هلَّيبة”، ووضعًا وصفه الاقتصادي الكبير جلال أمين “جاء الانفتاح والتضخم بحفنة من المسؤولين من نوع جديد، إذ يتسمون بصفتين لم تكونا من سمات المسؤولين في الخمسينيات والستينيات وهما: القابلية للفساد من ناحية، واللا مبالاة بمتطلبات التنمية من ناحية أخرى. والصفتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا؛ فالفساد يضر بالتنمية، والانهماك فى الفساد يعمي البصر عن متطلبات التنمية، وبطء التنمية يشجع على مزيد من الفساد، أي أنه في ظل ركود الدخل لا يمكن تحقيق الإثراء السريع إلا بالافتئات على حقوق الآخرين”.
لم تبتعد هذه الكلمات كثيرًا عما كتبه الكاتب الراحل أحمد صادق سعد حين وصف رموز السلطة والطبقة الجديدة التي خلقها الانفتاح “هذه الطبقة الجديدة التي ألقت بنفسها في ملذات الثروة السهلة والمزيد منها بشدة أكبر ودون مراعاة للمظاهر الأخلاقية الأولية، لاقتناعها أن وضعها الممتع لن يدوم طويلًا. وبرز في هذا المجال أصحاب الثروة النفطية، والعديد منهم يأتون إلى مصر للسياحة والترفيه فيبذرون أموالًا طائلة في الموبقات. وتعرف على الخفي في المجتمع النفطى مئات الآلاف من المهاجرين الذين عملوا هناك.. وبهذه التصرفات، كانت الطبقة الثرية إنما تنزع عن أعين الجماهير العريضة البقايا الباقية من الاحترام للغنى الفاحش. وملأت القاهرة الروايات عن الثروات المجموعة بالإجرام والمصروفة في الإجرام وذلك في أقرب الدوائر لمراكز السلطة”.
وعلى جانب آخر وفي تطور عكسي، بدأ القطاع العام وعماله في التراجع والتدهور على مستوى الأجور والأوضاع المعيشية والخدمات المقدمة إليهم، ليكون الاحتفاء بالقطاع الخاص والاستثماري والاستهلاكي على حساب الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة من حرفيين وتجار صغار وأصحاب المشاريع الصغيرة، وهي فئات واسعة الانتشار في مصر.
هذه الأوضاع والظروف الجديدة كانت محل انتقادات الفقراء، بجانب التيارات اليسارية والناصرية التي كانت نشطة في هذا الوقت. لذلك، لم تمر القرارات التي أعلنها عبد المنعم القيسوني نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية عصر يوم 17 يناير/كانون الثاني برفع أسعار السلع الأساسية من الخبز والسكر والأرز والبنزين والسجائر ، مرور الكرام. بل كانت إيذانًا بتفجر غضب بدأ لدى الشرائح الأكثر وعيًا بين الفقراء، العمال أو الطلاب على السواء
وقائع ما جرى
كانت القرارات التي أعلنها القيسوني محلًا لنقاشات عمال الوردية الثانية والثالثة لعمال شركة غزل وحرير حلوان مساء يوم 17 يناير، وبعض عمال مصانع حلوان الأخرى.
لذلك ما إن بدأ عمال الشركة التظاهر صباح يوم 18 يناير، حتى وصلت الأخبار للعديد من المصانع والشركات الأخرى بنفس المنطقة الصناعية. ولم تكد تمر ساعات حتى كانت المظاهرات تعمُّ حلوان. وفي جامعة عين شمس، بدأ طلاب كلية الهندسة التظاهر في ميدان عبده باشا القريب من العباسية متوجهين نحو زملائهم في مقر الجامعة هناك.
زادت حدة المظاهرات الغاضبة حين تناقل العمال والطلبة أخبار تحرك عمال الترسانة البحرية في الإسكندرية، ولم ينتهِ يوم 18 يناير، إلا وكانت أغلب مدن ومحافظات مصر، لا سيما الفقيرة العمالية، تتحرك غضبًا ودعمًا لأقرانهم في المدن الأنشط.
ركّزت مظاهرات القاهرة، المدينة التي تحولت لما يشبه ميدان حرب، على الوصول لمجلس الشعب لإعلان الغضب والرفض من جانب، وإلى شارع الهرم الذي أصبح في هذه الحقبة مركز لهو الأثرياء الجدد.
ساهم مرور المظاهرات في أحياء شعبية، مثل السيدة زينب والوايلي ومصر القديمة وشبرا، في انضمام عشرات آلاف الفقراء لها، مرددين خلف بعض النشطاء اليساريين والناصريين هتافات تندد بالفقر وارتفاع الأسعار، وتقارنه بثراء الطبقة الجديدة.
وفضلًا عن انضمام قيادات عمالية وطلاب ومثقفين ذوي وعي طبقي لهذه المظاهرات، ما أكسبها قوةً وتنظيمًا، كان للعنف الذي واجهت به الداخلية هذه التظاهرات أثر في تحول العديد منها للعنف، الذي طال أكثر من 12 قسم شرطة في أنحاء متفرقة، وكازينوهات ومحال السلع الفاخرة والسيارات الملاكي وبعض الفنادق.
وطبقًا لدراسة أحمد صادق سعد التي أشرنا اليها، فشلت قوات الشرطة والأمن المركزي في السيطرة على التظاهرات الغاضبة، لا سيما في القاهرة والإسكندرية، فتم الاستعانة ببعض قوات الجيش مثل الصاعقة والشرطة العسكرية، خصوصًا في اليوم الثاني للاحتجاجات الكبيرة، حتى بعد إعلان حظر التجول وإعلان القيسوني التراجع عن قرارات رفع الأسعار وإيقاف العمل بها.
خفت حدة التظاهرات مساء اليوم نفسه بعد التأكيد على التراجع عن القرارات المتسببة في الاحتجاجات، لكن كان ما يزيد عن 70 قتيلًا سقطوا، ونحو 2000 شخص قُبض عليهم، ربعهم تقريبًا ناصريون واشتراكيون.
وكالعادة، لم تتوقف حملات الاعتقالات في الأسبوع التالي للتظاهرات، وبات كلُّ يوم يحمل للقضية أعدادًا متزايدة من السياسيين؛ للانتقام منهم أو لتقديمهم كبش فداء. وكان التلفيق والفبركة حاضرين، حيث لم يتجاوز المخرج محمد خان في فيلمه الروائي التوثيقي زوجة رجل مهم أو الروائي إبراهيم عبد المجيد في روايتيه الإسكندرية في غيمة وهنا القاهرة الحقيقة، حين أشاروا للزج بنشطاء كانوا خارج البلاد في هذه القضية.
ولكن في حكمها على القضية التي استمرت نحو أربع سنوات، كذّبت المحكمة سردية السلطة عندما قالت “والذي لا شك فيه وتؤمن به المحكمة واطمأن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التى وقعت يومي 18 و 19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار، فهي متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب، ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن تُرد تلك الأحداث إلى سبب آخر غير تلك القرارات، فلقد أُصدرت على حين غرة وعلى غير توقع من أحد، وفوجئ بها الناس جميعًا بما فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل أن يستطيع أحد أن يتنبأ بها ثم يضع خطة لاستغلالها ثم ينزل إلى الشارع للناس محرضًا ومهيجًا”.
لم تفشل انتفاضة يناير ولم تنجح
الفقر وحده لا يخلق انتفاضة أو ثورة، فقد نجحت الانتفاضة في وقف قرار رفع الأسعار، لكنها لم تنجح في وقف تغلغل الفقر والانفتاح الاستهلاكي والعنف.
تلك كانت أهم محصلات انتفاضة يناير 1977، إذ يظل ضروريًا وجود قيادة واعية ومنظمة، تعمل على تحويل الغضب في الاتجاه الصحيح سواء لتغيير الأوضاع الصعبة أو بالحد الأدنى إصلاحها، بدلًا من الفوضى والعنف.
أيضًا أكدت انتفاضة يناير 1977 على أن القمع مهما كان حادًا، فإنه قد يؤخر التحرك الشعبي، لكنه لا يقضي عليه تمامًا، فدون بحث ودراسة أسباب الغضب وتفاديه، ودون خلق مساحات للنقاش وسبل سياسية وقانونية للرفض والنقد، يصعب على السلطة الإمساك بزمام الأمور وخلق الاستقرار، بل يصبح استقرارًا هشًا ومؤقتًا لن يدوم.