دين الغربة
دائما ما كنت مأسورا تماما بشخصية أبى ذر الغفارى، أكثر من أى شخصية تاريخية أخرى، وكنت مأسورا أكثر بردود فعله، وظهوره واختفائه. «رحم الله أبا ذر، يمشى وحيدا، ويموت وحيدا، ويبعث يوم القيامة وحيدا».
أبو ذر هو المثال المتجسد للغربة، المثال المتجسد للوحدة، المثال المتجسد للصمود الذى لا يكسر، ولا يستسلم، ولا يقبل أبدا التفاوض على إيمانه.
هو تطبيق للمثل اليسارى القائل.
«اليسارى هو آخر من يأكل، وأول من يشبع، وأول من يموت». كان انبهارى الدائم بتلك الشخصية يتزايد مع الوقت، منذ أن قرأت قصته عندما كنت فى السادسة «كانت قصة أبى ذر تُدرس للصف الخامس الابتدائى فى أوائل التسعينيات». كانت غربته عمن حوله، واختياره التصدى لأى محاولات لتدجينه، أو إدخاله حظيرة السلطة، لم يهادن، لم يهتز، ولم يتراجع، ولم يقنط، ولم ييأس… ظل رافعا لواء الحق حتى مات، ولم يبال بما سيذكر عنه، أو حتى من سيدفنه، فقط استكان، وأسلم روحه، دون خوف، أو وجل.
فمات غريبا، كما عاش. فطوبى للغرباء.
اعترض على أبى بكر، واستقام مع عمر، وخرج على عثمان، وناصر عليًّا. لم يطلب شيئا، ولم يأخذ شيئا، وكما عاش، مات، ولم يبال بأحد.
فالمجد للغرباء.
الآن يشتكى من يشتكى من أن إيمانهم يذبل، من أن الوهن يتسلل إليهم، من أن الحياة أصبحت أكثر قسوة. الآن يشتكون من الوسم الذى يتعرضون له، حينما يسمعون جملا شبيهة بـ«آدى اللى أخدناه من الثورة» و«مبارك كان أحسن من القرف اللى احنا فيه» أو من ادعاء من يحكمون الآن أنهم من صنعوا الثورة، على الرغم من خذلانهم لنا فى أول أيام الثورة، والآن.
ولا أفهم لمَ الشكوى؟
أكنا نشارك فى صناعة ثورة فى مطبخ مخبز مثلا؟
بمجرد أن نغير نوع الخميرة المستخدمة، سيخرج لنا خبز أفضل. أكنا خارجين على نظام طفولى يبلغ الثلاث سنوات عمرا؟
ألم يخبركم أحد أننا خرجنا على نظام متغلغل فسادُه فى كل أبناء هذا الوطن، ومن ضمنهم نحن الخارجين عليه؟
ألم يخبركم أحد أن الموضوع سيطول، وأن المنتصر هو من سيحتفظ بجَلَدِه، ويسمع سبابه وهو مبتسم، قائلا «رب اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون»؟
الثورة دين الغرباء والصامتين، الثورة لم تكن يوما دينا لمن يهوون الراحة، أو الاندماج فى المجتمعات المخملية وإراحة البال. الثورة صنيعة خارجين عن نظام، عن تقاليد، عن العرف، عن قانون هذا المجتمع. الثورة دين اللا منتمين، والحالمين بغدٍ آخر ممكن. الثورة دين المتوحدين داخل ذواتهم، الراغبين بعالم مثالى جديد. الثورة دين من يرفضون الاندماج فى واقع مجبرين عليه، رافضين له، خارجين عليه. الثورة دين الآملين فى أرض تُرسم بأحلامهم، بلا حدود للحلم، ولا حد أقصى للبهجة. دين الرفض لما كان، وعدم القبول بالواقع المقيت.
وبقيامنا بالثورة سَخِرْنا من الدستور القائم وقتها، وأخرجنا ألسنتنا للقوانين، ورفضنا تقاليد هذا المجتمع، وهزمنا نظاما، فما بالكم تتباكون الآن على قانون ودستور وانتخابات؟
ما بالكم الآن، تشتكون من الغربة والوحدة؟ كأنهم عار، أو مرض؟ ما بالكم الآن، تقفون موقف المدافع أمام الجميع؟ ما بالكم تكتئبون، وتنعزلون، وتحاسبون أنفسكم على أخطاء آخرين، كانوا منا، أو ما زالوا معنا؟
لمَ تفاوضون؟ لمَ تقبلون حلولا وسطا؟ ولمَ تنتهزون فرصا؟ فلمَ التباكى على لبن غيرنا المسكوب؟
لمَ جلد الذات؟
قمنا بثورة، وأسقطنا نظاما، وجاء من يحكمون الآن بأصوات هذا الشعب «الذى ضُحِكَ عليه»، لا بأصواتكم… قمنا بثورة، لم يشاركنا فيها أحد فى أول أيامها، وحين بدأ انتصارنا يلوح، هلل لها الجميع واعتبرها ثورته، ولم نعترض، لأنها كانت من أجل هذا الوطن.
لم نكن نحن المخطئين، فلمَ الخوف؟
لمَ يغلف كلامكم القنوط الممتزج بسخرية سخيفة؟
أما كنا نعرف، أن الظلام يشحذ جنوده ليقضوا علينا؟
أما كنا نعلم، أن كل خطوة سنخطوها سنحارَب ممن تعفنوا فى ظل من سبق؟
أما كنا نعلم أن الطريق مفروش لنا بخوف ثقيل، يحاول أن يجعلنا من أبنائه؟
فلمَ تيأسون لدرجة أن يخرج أحد ممن أحترمهم «خالد البرى» ويخبرنا بأن نقبل شفيقًا؟
أنهرب من مهرج يحملنا العار، إلى قاتل تقطر من بين يديه دماء إخوة لنا؟
أوَصَل بنا اليأس إلى هنا يا خالد؟
أوصل بنا الخوف إلى أنْ نقبل بقاتل؟
ما كنا من أنجح مرسيا، وما كنا من انتخب إخوانا، وما قبلنا عسكرا، وما احتشدنا مع فلول.
وحين اشتداد الوغى، كنا أول المضحين، وما طلبنا مقابلا، وما سألْنا أحدًا معروفا. لم يكن أحد منا، فى أى ائتلاف لمنتفعى الثورة، وما هرولنا لنبارك اختيار عصام شرف. ولا دعينا أحدا لانتخابات مجلس شعب وإخوة لنا يموتون فى «محمد محمود». أحب أنْ أبشرنا، أننا سنعيش أغرابا، وسنموت أغرابا. تماهوا مع غربتنا، ولا ترفضوها، فتلفظكم. اقبلوا، فهذا قدرنا، ولا طريق للهروب من هذا القدر إلا بالابتسام فى وجهه. تماهوا مع الوحدة، ولا تحاولوا الاندماج مع أى مجتمع، فأنتم الأفضل، وأنتم من اخترتم. كونوا ثورتكم، قبل أن تطلبوا من أحد آخر أن يؤمن بها. ابتسموا فى وجه الغربة، تكن لكم وطنا.
تكن لنا انتماء.
تكن لنا هُويةً وطريقًا.
المصدر: التحرير