” لسنا عبيدا ولا متاعا ولن نورث بعد اليوم”

الأستاذ نبيل الهلالي

زملائي.. وزميلاتيnabil

أستأذنكم في استهلال حديثي بنقد ونقد ذاتي
نقد لا أتوجه به إلى اللجنة الداعية لهذا المؤتمر فحسب بل أوجهه إلى كل القوى الديمقراطية.. التي يعلو صوتها في المطالبة بالديمقراطية.. ومع ذلك نكاد لا نرى للضجيج طحنا.. المطالب الواردة في النداء العاجل محصلة مطالب تنادت بها القوى الديمقراطية منذ سنوات، واليوم بعد مضى السنوات تلو السنوات فإن الحصاد الضئيل الهزيل الذي تحقق في مسيرة النضال الديمقراطي هو شاهد إثبات ضدنا .. كلنا .. يشهد على أننا لم نكن على مستوى المسئولية، ولم نبذل الجهد الواجب لإكساب النداء العاجل بعدا جماهيريا وعمقا جماهيريا، لذلك ظلت مطالب النداء حبيسة الأوراق التي جمعت عليها التوقيعات ولم تتخطى هذه المطالب حدود أحلام اليقظة والأمنيات
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

الزميلات والزملاء

التزاما بالوقت المتاح سوف أركز حديثي على عشرة نقاط محددة:

أولا:

إن التغيير السياسي والدستوري والديمقراطي الذي ننشده لن يهبط علينا كهبة من السماء، إذ لا يغير الله ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أن التغيير المنشود لن يكون إلا ثمرة نضالات وتضحيات، وخاسر من يراهن على أن الدولة البوليسية يمكن أن تمطرنا يوما بحريات أو حقوق، إذ كما يقول المثل الشعبي: “عمر الحداية ما تحدف كتاكيت”

ثانيا:

إن التغيير الجذري المنشود مهمة لن تقوى على تحقيقها قوة سياسية منفردة أو حزب سياسي واحد. إنها مهمة كل القوى الديمقراطية في البلاد، ونضال هذه القوى المشترك في سبيل تحقيق الهدف المشترك يتطلب منها الاصطفاف داخل إطار نضالي مشترك. قد نختلف فيما بيننا على تسميته، لكننا مجتمعين على ضرورته وأهميته. ومطلب التحول الديمقراطي الجذري قادر على خلق أرضية مشتركة صالحة لأن تلتقي عليها قوى سياسية متناقضة في متطلباتها الأيديولوجية، مختلفة في أهدافها السياسية، الأمر الذي قد يفرق بيننا على المدى البعيد، إلا أنها مجمعة على المدى القصير على ضرورة الخلاص من براثن الحكم البوليسي. فمادام القمع والقهر لا يفرق بين الناس حسب الأيديولوجيات، فلا يجوز أن يتفرق الناس أمام القمع والقهر.

ثالثا:

التحول الديمقراطي الجذري لن يتحقق بالنضال النخبوي الفوقي الذي يخاض بالخطب الملقاة داخل القاعات المغلقة والمقرات المحاصرة. إن معركة التحول الديمقراطي لن تحسم إلا في قلب الشارع السياسي، ولن ينجح النضال الديمقراطي ما لم يجذب إلى ساحته المواطن العادي غير المسيس الذي يجب أن يعي أن تغييب الديمقراطية السياسية يحرمه من وسائل الدفاع عن حقه في حياة أفضل والذود عن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية.

رابعا:

بجميع القوى المؤمنة بأن التغيير الديمقراطي الجذري ضرورة حياة أو موت .. داخل إطار نضالي واحد لا يجوز ابتذاله بحيث يتم التعامل معه كما لو أنه مجرد تجميع حسابي للقوى السياسية. فإطار العمل المشترك لا يجوز إخضاعه أبدا لمنطق (الدعوة العامة) الذي يحكم عقد الندوات والمؤتمرات بحيث يختلط الحابل بالنابل داخل هذا الإطار. إن الموقف المبدئي الذي يحكم العمل المشترك يجب أن ينطلق من الإجابة المحددة على سؤال محدد هو: تحالف من.. مع من .. ضد من؟ ولذلك يجب تحاشي خلط الأوراق وطمس الخطوط الفاصلة بين الخنادق والمعسكرات، وذلك بالاحتكام إلى معيار موضوعي فارز يحدد القوى المؤهلة والمدعوة للنضال المشترك في سبيل الغد الديمقراطي. والمعيار الموضوعي الصحيح هو موقف كل قوة سياسية من السياسات التي قادت البلاد إلى قاع الهاوية، قاع التبعية، وقاع القهر البوليسي، وقاع إفقار وتجويع الجماهير، وبالتالي موقف كل قوة سياسية من صانعي هذه السياسات، لذلك فإن دعوة الوفاق الوطني أو التحالف الوطني مع الحزب الوطني هي محاولة لانتزاع بصمة الموافقة من قوى المعارضة على سياسات الحكم، وتحويل قوى المعارضة إلى سيارة نجدة مهمتها انتشال الحكم من ورطته وأزمته.

خامسا:

لا يجوز خوض النضال في سبيل التغيير السياسي الدستوري الجذري بمنطق تاجر القطاعي بحيث تتوزع جهود القوى الديمقراطية على معارك جزئية موسمية متناثرة.. لا يربط بينها رابط، معارك ضد تشريع استثنائي أو آخر، أو ضد ممارسة استبدادية أو أخرى. إن خوض هذه المعارك الجزئية على أهميته لن يفلح في إحالة الاستبداد إلى متحف التاريخ ما لم تتشابك هذه المعارك وتتلاحم فيما بينها محكومة في ذلك بأن معركة الديمقراطية في جوهرها هي معركة ضد نهج الدولة البوليسية ذاته من أجل تصفية كل مظاهر الحكم البوليسي وإسقاط كل تشريع استثنائي وإنهاء كل ممارسة قمعية يفرزها هذا النهج.

سادسا:

طالما أن معركة التغيير الدستوري الديمقراطي هي معركة كل القوى والعناصر السياسية التي تتطلع إلى غد ديمقراطي لبلادنا فإن هذا يتطلب إعادة النظر في تركيبة لجنة الدفاع عن الديمقراطية، فهذه اللجنة تقتصر عضويتها حتى الآن على ممثلي الأحزاب السياسية التي تعترف لها الدولة البوليسية بالشرعية. واسمحوا لي أن أتساءل: كيف تلزم لجنة تناضل في سبيل الديمقراطية نفسها بالمقاييس غير الديمقراطية للشرعية التي يفرضها الحكم البوليسي؟
إن تذكرة الدخول لعضوية لجنة الدفاع عن الديمقراطية لا يجوز أن تكون صك الشرعية الذي تصرفه لجنة الأحزاب الحكومية لمن تشاء وتحجبه عمن تشاء. فمشروعية الحزب السياسي أو التيار السياسي لا تستمد من ترخيص مختوم بخاتم الدولة البوليسية وإنما تستمد هذه المشروعية من الضرورة الموضوعية لوجود الحزب أو التيار السياسي. ولجنة الدفاع عن الديمقراطية مطالبة أيضا بالانفتاح على كل المحاولات الجادة الأخيرة التي تموج بها الساحة السياسية والتي تناضل في سبيل ذات الهدف، وأخص منها بالذكر:
– حركة 20 مارس من أجل التغيير
– حركة الائتلاف الوطني للأحزاب والقوى والتيارات السياسية

سابعا:

مع تنامي المطالبة الشعبية بالتغير في الداخل ومع تزايد الضغوط الأمريكية المشبوهة والمرفوضة على الأنظمة العربية الحاكمة من الخارج، يحاول الحكم البوليسي في بلادنا تبييض وتجميل وجهه الكالح وذلك بالاستمرار في إتاحة هامش ديمقراطي متآكل متمثل في قدر محسوب من حرية الصياح في الصحافة غير الحكومية، فضلا عن اتخاذ بعض الإجراءات المسرحية الخادعة، مثل إلغاء محاكم أمن الدولة مع الاستمرار في تسليط سيف المحاكم العسكرية على رقاب المواطنين المدنيين وتشكيل مجلس قومي حكومي لحقوق الإنسان، وهي إجراءات تذكر بالسادات عندا بدأ عهده بأن هدم بساعديه أول حجر في مبنى سجن مصر ليختم عهده بمذبحة سبتمبر 81. إن الهامش المتاح لحرية الصياح لا يعني توافر الديمقراطية في بلادنا، فما جدوى مثل هذا الهامش في غيبة حرية العمل السياسي وحرية العمل الحزبي وحرية تحقيق التغيير من خلال تداول السلطة. إن حرية الصياح في غيبة كل هذه الحريات تعتبر صمام أمان للدكتاتورية، تضمن إطالة عمرها عن طريق تنفيث أبخرة الغضب المجمعة داخل مراجل السخط الشعبي بحيث تحل الكلمة الغاضبة الفردية محل الحركة الفاعلة الجماعية. وعلى القوى الديمقراطية الحقة رفض ابتلاع هذا الطعم وفضح محاولات توفيق أوضاع التشريع الاستثنائي بإلباسه عباءة التشريع العادي عن طريق تسريب صلاحيات الطوارئ الاستثنائية إلى صلب قانون الإجراءات الجنائية. إن أية قوة سياسية أو عناصر سياسية تقبل المشاركة في مثل هذه الخدع السينمائية تحول نفسها إلى ديكورات زائفة لتزيين مسرح الاستبداد، وقبول المشاركة في عضوية المجلس القومي الحكومي لحقوق الإنسان هو طعنة في الظهر موجهة لنضال شعبنا من أجل التغيير الدستوري الديمقراطي الجذري.

ثامنا:

النضال الديمقراطي في المرحلة القادمة يجب أن يتجاوز حدود مجرد توزيع النداء العاجل أو مجرد التوقيع على النداء العاجل. إن القوى الديمقراطية مطالبة بخوض معارك نضالية في الشارع السياسي لانتزاع المطالب الدستورية المشروعة التي تضمنها النداء، وتحويل هذه المطالب إلى واقع ملموس متجسد على أرض الواقع. لقد آن الأوان أيها الأخوة لكي لا نقنع بعقد المؤتمرات المغلقة داخل المقرات المحاصرة التي ندعو الناس للحضور إليها. آن الأوان أيها الأخوة لكي ننزل نحن إلى الناس ونغوص في أعماق الأغلبية الصامتة التي يكون صمتها أحيانا أبلغ من أي كلام. إذا كان النداء يطالب بإطلاق حرية تشكيل الأحزاب ورفع الحصار القانوني والسياسي المفروض عليها فإن ذلك لن يتحقق إلا بإسقاط قانون الأحزاب إسقاطا فعليا وذلك عن طريق قيام الأحزاب المعترف بها من لجنة الأحزاب بتجاوز الحواجز غير الدستورية التي تعزلها عن الجماهير وتحدد إقامتها داخل مقراتها، وعن طريق قيام القوى السياسية الفاعلة ذات الوجود في المجتمع والمحجوب عنها الشرعية بفرض شرعيتها الواقعية ولو كره الكارهون ومهما علت التضحيات. وإذا كان النداء يطالب بكفالة استقلال النقابات المهنية فإن ذلك لن يتحقق إلا بإسقاط القانون 100 سيئ السمعة، وهذا يتطلب انطلاق حركة نضالية موحدة للمهنيين الديمقراطيين على مستوى جميع النقابات المهنية لإسقاط القانون 100 ولانتزاع حق كافة المهنيين في انتخاب مجالس نقاباتهم دون أدنى وصاية أو تدخل من جانب الدولة. وإذا كان النداء يطالب بكفالة استقلال النقابات العمالية فإن الطبقة العاملة مطالبة بأن تسقط وحدانية التنظيم النقابي الحكومي وأن تنفض عن كاهلها وصاية الدولة البوليسية وأن تنتزع حقها الدستوري وأن تمارس حقها الدستوري في تكوين نقاباتها المستقلة. ومنذ 15/4/1995 وجهت المحكمة الدستورية العليا ندا إلى الطبقة العاملة المصرية من خلال حكم تاريخي أصدرته عبرت فيه عن تطلع المحكمة إلى “وجود حركة نقابية تستقل بذاتها ومناحي حياتها”، وأكدت المحكمة في حكمها بكل الحسم والحزم حق الطبقة العاملة في أن تختار بإرادتها الحرة بين وحدانية التنظيم النقابي أو تعدديته دون أدنى قيد تشري، ودون تعليق هذا الاختيار على أي إذن مسبق من أي جهة إدارية. إن حكم المحكمة الدستورية العليا دعوة صريحة من قمة الجهاز القضائي في مصر إلى عمال مصر ليأخذوا زمام المبادرة وليؤسسوا نقابتهم المستقلة. وإذا كانت حرية الصحافة تمر اليوم بمحنة الخنق والذبح، وإذا كان الصحفيون في مصر يتعرضون لقصف الأقلام وتقييد الحرية، بل والموت داخل الزنازين بهدف تكميم وتلجيم الصحافة سترا لعورات الحكم وحماية للفساد السياسي الذي استشرى من القاعدة إلى القمة وتحول إلى مؤسسة أخطبوطية وإلى دولة فوق الدولة، فعلى الصحفيين المصريين بدعم من سائر المهنيين ومن كل القوى الديمقراطية استئناف انتفاضتهم التاريخية ضد القانون 93 لسنة 1995 والتي نجحت يومها في إجبار الحكم البوليسي على التخلي عن هذا القانون من قبل أن يجف مدده. إن ما يعانيه الصحفيون اليوم هو ثمرة ابتسار انتفاضة 1995 من قبل تحقيق كامل أهدافها.

تاسعا:

إن النضال الشعبي في مصر من أجل انتزاع الديمقراطية وتحقيق التغيير الجذري يجب أن يتمايز بشكل مطلق عن محاولات الإمبريالية الأمريكية للصيد في الماء العكر وللمتاجرة بورقة حقوق الإنسان في السوق السوداء وغزو المنطقة العربية متنكرين في ثياب حماة الديمقراطية. إن الديمقراطية من الطراز الأمريكي مغشوشة ومرفوضة كل الرفض بقدر ما هي مرفوضة أية محاولة للاستقواء بدس الأنف الأمريكي في شئوننا الداخلية.
وعلى القوى الديمقراطية الحقة أن تدعو الجماهير العريضة للتمييز بكل الوضوح بين الباكين على حقوق الإنسان المهدرة في بلادنا بدموع ضادقة وبين المتباكين عليها بدموع التماسيح. على القوى الديمقراطية دعوة الجماهير إلى التفرقة بكل الوعي بين صيحات الحق التي يراد بها باطل وصيحات الحق التي يراد بها حق.

عاشرا وأخيرا:

فإن القضايا المطروحة على الساحة عديدة لكن الدقائق المتاحة معدودة، لذلك أختم كلمتي بملحوظة أخيرة حول قضية مثارة لا أسمح لنفسي بتجاهل تحديد الموقف منها أو المرور عليها مرور الكرام، وأعني بها قضية التوريث. ففي الوقت الذي تتصاعد فيه النضالات الديمقراطية من أجل فرض تداول السلطة تتزايد فيه التحضيرات الكواليسية من أجل ترتيب توريث السلطة. والقوى الديمقراطية الحقة مطالبة بأن تعلن موقفها بأعلى صوت:

نعم لتداول السلطة
لا وألف لا لتوريث السلطة

وإذا كان لابد لحديثي من خاتمة، فلن أجد أفضل ولا أروع من أن أختم حديثي بمقولة ثائرة رائعة أطلقها يوما زعيم مصر الثائر أحمد عرابي باسم شعب مصر في وجه خديو مصر، مقولة قال فيها:

” لسنا عبيدا ولا متاعا ولن نورث بعد اليوم”

مؤتمر لجنة الدفاع عن الديمقراطية
“نداء من أجل الإصلاح السياسي والديمقراطي”
16 يوليو 2003

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *