مبادئ دستورية حرية التعبير
[الفقرة رقم 10 من الطعن رقم 77 سنة قضائية 19 مكتب فني 8 تاريخ الجلسة 07 / 02 / 1998 – صفحة رقم 1165]
إن حرية التعبير تمثل فى ذاتها قيمة عليا لا تنفصل الديمقراطية عنها ، وإنما تؤسس الدول على ضوئها مجتمعاتها صوناً لتفاعل مواطنيها معها ، بما يكفل تطوير بنيانها وتعميق حرياتها ، وإن جاز القول بأن لحرية التعبير أهدافها التى يتصدرها بناء دائرة للحوار العام لا تنحصر آفاقها ولا أدواتها ، تدنى الحقائق إليها فلا يكون التعبير عن الآراء حائلاً دون مقابلتها ببعض وتقييمها ، ولا مناهضتها لآراء قبلها آخرون ، مؤدياً إلى تهميشها ، ولا تلقيها عن غيرها مانعاً من ترويجها أو مقصوراً على بعض جوانبها ، ولا تدفقها من مصادر تزدريها مستوجباً إعاقتها أو تقييدها . كذلك فإن إنمائها للشخصية الفردية وضمان تحقيقها لذاتها ، إنما يدعم إسهامها فى أشكال من الحياة تتعدد ملامحها بما يكفل حيويتها وترابطها ، فلا يكون تنظيمها مقتضياً إلا اقل القيود التى تفرضها الضرورة . إن حرية التعبير ــ وكلما كان نبضها فاعلاً وتأثيرها عريضاً ــ هى الطريق لبناء نظم ديمقراطية تتعدد معها مراكز إتخاذ القرار ، تتسم بتسامحها مع خصومه
ا ، ومسئوليتها قبل مواطنيها ، وبرفضها لكل قيد يخل بمصداقيتها ، وإستجابتها بالإقناع لإرادة التغيير ، وطرحها من خلال الحوار لبدائل يفاضلون بينها لاختيار أصلحها ، أيا كان مضمونها . ما تقدم مؤداه ، أن الآراء على إختلافها لا يجوز إجهاضها ، ولا مصادرة أدواتها ، أو فصلها عن غاياتها ، ولو كان الآخرون لا يرضون بها ، أو يناهضونها ، أو يرونها منافية لقيم محدودة أهميتها يروجونها ، أو يحيطون ذيوعها بمخاطر يدعونها ، ولا يكن لها من وضوحها وواقعها ، ما يبرر القول بوجودها . إن المشرع وكلما تدخل بلا ضرورة ، لتقييد عرض آراء بذواتها بقصد طمسها أو التجهيل بها بالنظر إلى مضمونها Content-based abridgments ، كان ذلك إصماتاً مفروضاً بقوة القانون فى شأن موضوع محدد إنتقاه المشرع إنحيازاً ، مائلاً بالقيم التى تحتضنها حرية التعبير عن متطلباتها التى تكفل تدفق الآراء وإنسيابها بغض النظر عن مصدرها أو محتواها ، ودون ما إعتداد بمن يتلقونها أو يطرحونها ، وبمراعاة أن الحق فى الحوار العام ، يفترض تساويها فى مجال عرضها وتسويقها . إن إكراه البعض على القبول بآراء يعارضونها أو تبنيها ، لا يقل سوءاً عن منعهم من التعبير عن آراء يؤمنون بها أو يدعون إليها ، وهو ما يعنى أن الحمل على إعتناق بعض الآراء ، أو إقماع غيرها ، سوءتان تناقضان مفهوم حوار يقوم على عرض الأفكار وتبادلها والاقناع بها . كذلك فإن موضوعية الحوار ــ وعلى الأخص كلما كان بناء ــ شرطها شفافية العناصر التى يدور الجدل حولها ، بما يحول دون حجبها أو تشويهها أو تزييفها . وتعلق مفهوم الحوار بالقبول بآراء أو برفضها بعد موازنتها ببعض ، وعلى ضوء حقائقها وحكم العقل بشأنها ، مؤداه أن كل أقوال يكون بها الحوار منتفياً ، كتلك التى تحرض على إستعمال القوة إستثارة لنوازع العدوان عند من يتلقونها ، وإضراراً بالآخرين ، لا يجوز أن تتخذ من حرية التعبير سنداً ، تقديراً بأن مفهوم عرض الآراء والأفكار من أجل تقييمها ــ على ضوء صحتها أو بهتانها ــ منحسر عنها ، فضلاً عن إقترانها بمضار لا يجوز القبول بها .
[الفقرة رقم 12 من الطعن رقم 77 سنة قضائية 19 مكتب فني 8 تاريخ الجلسة 07 / 02 / 1998 – صفحة رقم 1165]
حرية التعبير ــ فى مضمونها الحق ــ تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها فى الاجتماع المنظم ، وحجب بذلك تبادل الآراء فى دائرة أعرض ، بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها البعض ، ويعطل تدفق الحقائق التى تتصل باتخاذ القرار ، وكذلك تشكيل روافد الشخصية الإنسانية التى لا يمكن تنميتها إلا فى شكل من أشكال الاجتماع . بل إن حرية القول والصحافة والعقيدة وتقديم العراض ، لا يمكن ضمانها ضماناً كافياً إلا عن طريق إجتماع تتكتل فيه الجهود للدفاع عن مصالح بذواتها ، يكون صونها لازماً لإثراء ملامح من الحياة يراد تطويرها إجتماعياً أو إقتصادياً أو سياسياً ، بما يكفل تنزع مظاهرها وإتساع دائرتها من خلال تعدد الآراء التى تطرح على مسرحها .
[الفقرة رقم 3 من الطعن رقم 2 سنة قضائية 16 مكتب فني 7 تاريخ الجلسة 03 / 02 / 1996 – صفحة رقم 470]
إن حرية التعبير التى تؤمنها المادة 47 من الدستور أبلغ ما تكون أثراً فى مجال اتصالها بالشئون العامة وعرض أوضاعها ؛ وكان حق الفرد فى التعبير عن الآراء التى يريد إعلانها ، ليس معلقاً على صحتها ، ولا مرتبطاص بتمشيها مع الاتجاه العام فى بيئة بذاتها ، ولا بالفائدة العملية التى يمكن أن تنتجها ؛ وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة فى أعماق منابتها بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام Public Mind فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التى تتصل بتكوينه ولا عائقاً دون تدفقها . وكذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 47 من الدستور لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التى يؤمنون بها بل كذلك اختيار الوسائل التى يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء فى مجال عرضها أو نشرها ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها .
[الفقرة رقم 6 من الطعن رقم 2 سنة قضائية 15 مكتب فني 8 تاريخ الجلسة 04 / 01 / 1997 – صفحة رقم 241]
البين من الأحكام التى إنتظمها القانون رقم 35 لسنة 1978 المشار إليه ، تغييها صون حرية الإبداع من خلال أدواتها فى قطاع المهن التمثيلية والسنمائية والموسيقية ، ليكون لكل منها نقابتها التى ترعى مصالح أعضائها العاملين بها ، وتكفل لمواهبهم وملكاتهم الذهنية الفرص التى تلائمها ، وعلى الأخص من خلال تشجيعها وتقرير المزايا التى تخصها ، وكان الإبداع بذلك لا ينفصل عن حرية التعبير ، بل هو من روافدها ، يتدفق عطاءاً عن طريق قنواتها ويتمحض فى عديد من صوره ــ حتى ما كان منها رمزياً ــ عن قيم وآراء ومعان يؤمن المبدعون بها ويدعون إليها ، ليكون مجتمعهم أكثر وعياً ، وبصر أفراده أحد نفاذاً إلى الحقائق والقيم الجديدة التى تحتضنها . ومن ثم كان الإبداع عملاً إنشائياً إيجابياً ، حاملاً لرسالة محددة ، أو ناقلاً لمفهوم معين ، مجاوزاً حدود الدائرة التى يعمل المبدع فيها ، كافلاً الاتصال الآخرين تأثيراً فيهم ، وإحداثاً لتغيير قد لا يكون مقبولاً من بعض فئاتهم . وما ذلك إلا لأن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها ، وأن وسائل مباشرتها يتعين أن ترتبط بغاياتها ، فلا يعطل مضمونها أحد ، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها . ولا يتصور بالتالى أن يكون الإبداع على خلافها ، إذ هو من مداخلها ، بل أن قهر الإبداع عدواً مباشراً عليها ، بما مؤداه أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها بكل الوسائل المنصوص عليها فى المادة 47 من الدستور ، إنما تمثل الإطار العام لحرية الإبداع التى بلورها بنص المادة 49 بما يحول دون عرقلتها ، بل إنها توفر إنفاذ محتواها وسائل تشجيعها . ليكون ضمانها التزاماً على الدولة بكل أجهزتها .