الاسلام والديمقراطية: تعددية المنظور
عنوان هذه الورقة هو: الاسلام والديمقراطية: تعددية المنظور.
وقد سمحت لنفسى بتعديل العنوان الأصلى لمحور هذه الجلسة والذى كان يدور حول سؤالين: الأول هو هل هناك مواصفات دينية للديمقراطية؟ والثانى هو كيف يمكن تطبيق الديمقراطية فى مجتمع تدين غالبيته بالاسلام؟ ذلك أن السؤال الأول ينطوى على فرضية مسبقة هى أن ثمة ما يمكن تسميته بديمقراطية دينية، ثم التساؤل عن المواصفات التى قد تتطلبها.
بينما قد يرى البعض، وهو ليس بالقليل، أن الديمقراطية- بصيغتها المعاصرة- هى منظومة سياسية حداثية ليس باستطاعتنا رصدها على النحو الراهن فى أى فكر سابق على الحداثة.
أما السؤال الثانى، فإجابته تتطلب إما إثبات وجود الديمقراطية فى الاسلام، وإما الفصل بين الدين والسياسة على النحو الذى نراه فى الدولة الحديثة.
والسؤالان معا، يستدعيان إذن تحديد العلاقة بين الاسلام والديمقراطية. الأمر الذى يطرح بدوره سؤالا مركزياً هو: أى إسلام نعنى، أو بتعبير أدق، من خلال أى منظور نتعامل مع الاسلام؟
هل من خلال القراءة الملتزمة للنص الدينى، أم من خلال الاستدلال المنطقى بدءاً من معتقد معين، أم من خلال التاريخ الواقعى للاسلام، أم من خلال منظور مستمد من أيديولوجية معينة؟ فهناك على الأقل منظورات أربعة يمكن تناول الاسلام من خلالها. والأمر اللافت هنا أن كل من يتبنى أحد تلك المنظورات يعتقد- صادقا مع نفسه- أن ذلك هو الاسلام الحقيقى وأن سواه يجانبه الصواب. وسوف أحاول القاء بعض الضوء على تلك المنظورات وعلى ما قد يترتب عليها من رؤية للديمقراطية
1- منظور النص الديني :
يتميز النص الدينى الاسلامى (القرآن) بخصائص متفردة سواء من حيث الشكل أم من حيث المضمون. فوروده منجماً (متقطعا) على مدى حوالى عشرين عاما، وافتـقاد ترتيب السور فيه لوحدة الموضوع أو حتى التتابع الزمنى، فضلا عن أسلوبه الذى يتسم بالمجاز (فى مواضع كثيرة) من ناحية، وبالتعميم الشديد فى المفردات وفى الأحكام، من ناحية أخرى، يجعل البحث فيه يتحذ منحى خاصا ويقبل تعددا فى الفهم والتفسير قد لا يتاح لسواه من النصوص. ونظرا للمركزية المطلقة للنص الدينى فى الاسلام. فإننا نجد أن: كل:من يتصدى لبحث قضية ما فى الاسلام، يستند بصورة أو أخرى، على نص ما فى القرآن أيا كانت درجة اجتزائه من سياقه أو التعسف فى تأويله. وليس هذا هو ما أعنيه هنا بمنظور النص الدينى. وإنما أعنى تحديدا: ذلك المنظور الذى يستكشف كافة النصوص الواردة فى القرآن المتعلقة بموضوع البحث ثم يلتزم فى فهمها ببنيتها اللغوية من ناحية، وبالسياق اللغوى العام وسياق الوقائع المرتبطة بتلك النصوص من ناحية أخرى، ليخرج فى النهاية بتفسير موضوعى قدر الامكان، لا يتأثر كثيرا، بموقفه أو اتجاهه الفكرى المسبق.
فعلى سبيل المثال، هناك نصوص تستخدم كثيرا، لتبرير القول باحتواء الاسلام على المنظومة الديمقراطية: وهى نصوص تتعلق عادة بمفهوم الشورى؛ ومفهوم البيعة، ومفهوم الاستخلاف، وقيم الكرامة والعدل. رغم علمهم أن للشورى، حتى فى حالة اعتبارها نظاما سياسيا، مواصفات خاصة ليس بمقدورنا- إذا أردنا أن نكون موضوعيين- أن نتجاهلها هى: أولا: أنها عمل يصدر عن الحاكم أو صانع القرار، وأنها اختيارية فى اجرائها استشارية فى نتيجتها “وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله”.
وثانيا: أنها مقصورة على أهل الحل والعقد أى النخبة الاجتماعية، (واقع تاريخى).
وثالثا: أنها منظومة قبلية سابقة على الاسلام، تعبر عن متطلبات الحياة فى جماعات صغيرة، (واقع تاريخى). ورابعا: أن هناك مفهوماً ورد به نص دينى، قد يجعل المسألة أكثر تعقيدا مما تبدو، هو مفهوم طاعة أولى الأمر “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم” (النساء،59)،
فأيا كان تفسير عبارة أولى الأمر فإن مفهوم الطاعة فى حد ذاته لا يستقيم مع مبدأ المشاركة فى صنع القرار السياسى ومساءلة السلطة ومراقبتها وسحب الثقة منها والذى هو جوهر العملية الديمقراطية.
أما مفهموم البيعة، فهو اتفاق أو عهد يجرى بين طرفين ويلتزم كل منهما بالتزام ما تجاه الآخر، وقد ورد فى القرآن ذكر بيعة العقبة الأولى (حيث دخل بعض الأوس والخزرج فى الاسلام) والثانية التى هى معاهدة بين الأوس والخزرج والنبي هدفها حماية النبي مقابل انتمائه لهم، “لقد رضى الله عن المؤمنيين إذ يبايعونك تحت الشجرة” (الفتح، 18- 19)، “إن الذين يبايعونك انما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم” (الفتح، 11) وفى التوبة، 111 “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم” (مبايعة مع الله). وهذه البيعات كما يذهب خلف الله، لم تكن من البيعات التى تكون لرؤساء الدول. إذ لم يكن من شأن النبى أن يصدر من القرارات إلا ما أذن الله له من بيان وتوضيح للناس. وبذلك يمكن القول: أن الاسلام الدولة قد نشأ بعد أن انتهى أمر النبوة والرسالة. كذلك فبيعة اجتماع سقيفة بنى ساعدة: لم تكن دينية بأى حال، فقد وصل فيها الجدال حد امتشاق السيوف. وكانت الممايزة فيها بين أحقية المهاجرين (قريش) أم الأنصار, تقوم على أسس دنيوية بحتة: هى أساساً قرابة القرشيين للنبى، كما تشهد بذلك كلمة عمر الشهيرة: من ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته ونحن أولياؤه وعشيرته، وحسم الأمر عندما استجاب الأنصار على لسان واحد منهم حينما قال: ألا إن محمدا من قريش وقومه أحق به وأولى. وما تلى ذلك من أحداث أدت إلى الضغط على علي بن أبى طالب لكى يبايع أبابكر، معروفة.
وكل تلك الأمور، بطبيعة الحال، هى خارج النص الدينى الآساسى (القرآن).
ويمكن إذن تحديد مجمل خصائص البيعة فى أنها اقرار بالسلطة بما يعنى- فى وقتها- أن الذى يبايع لن يعلن الحرب على من يأخذ البيعة، وهو أمر شديد الأهمية فى مجتمع تقوم الشرعية فيه على القوة القبائلية أو العشائرية قبل كل شئ. والبيعة، بهذه الصفة، من الصعب ايجاد صلة قوية بينها وبين عملية الانتخاب العام من خلال الاقتراع السرى المباشر، الذى يشارك فيه جميع الأفراد الراشدين العاقلين.
الاستخلاف:
تذهب نظرية الاستخلاف إلى أن الله قد استخلف الانسان ليكون خليفته فى الأرض، ولتكون- بتعبير خلف الله- مسئوليته عمارة الكون وإدارة شئون الحياة فيه على أساس من الحق والعدل، ورعاية المصلحة العامة للناس. وتستدل هذه النظرية على ذلك بالنصوص التالية:
“وإذ قال ربك للملائكة أنى جاعل فى الأرض خليفة” (البقرة، 30- 33)،
“يا داود، إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق” (ص، 21)،
“وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم” (النور، 55). والواقع أن التحليل التفصيلى للنصوص يصل بنا إلى أن المسألة ليست بالبساطة التى تبدو بها. فخلافة آدم تنطوى على تعقيدات كثيرة تتطلب تأويلات عديدة، حتى تصبح متجانسة فى وقائعها. فآدم رغم أنه خلق ليكون خليفة فى الأرض، استقر بداية فى الجنة وليس فى الأرض؛ ثم حدثت واقعة الاغواء التى اعتبرت خطيئة عوقب عليها بالهبوط إلي الأرض هو والشيطان، تنفيذا لرهان عقد بين الله وبين الشيطان. وهكذا نرى أن هبوط آدم من الجنة إلى الأرض، لم يكن لخلافة الله بل كان عقوبة على خطيئة. وأما خلافة داود فيمكن فهمها على أنها الملك. بينما خلافة المؤمنين فهي تأتى هنا بمعنى الفوز فى نهاية الأمر.
وفى كل الحالات فما دام الهدف من خلق البشر جميعا هو عبادة الله، وفقا للنص القرآنى الصريح، فالخلافة هنا من الصعب فهمها على أنها السيادة المطلقة، بل هى نوع من التفويض المشروط بتنفيذ التعاليم الالهية. قيم الكرامة والعدل:
لاشك أن ثمة نصوصاً عديدة فى القرآن تتحدث عن الأمر بالعدل والاحسان (النحل، 90) وعن الحكم بين الناس بالعدل (النساء، 58) وعن الأمر بالقسط بين الناس (آل عمران، 21) وعن أمر الرسول بأن يعدل بينهم (الشورى، 15) وعن القوامة بالقسط ولو على أنفسكم (النساء،13) وكذلك عن الكرامة:
لكن المشكلة هنا، هى كيف يمكن الاستدلال على الديمقراطية من خلال قيم العدل والكرامة، دون أن نتجاوز نطاق النصوص ومعانيها وسياقاتها؛
2- منظور الاستدلال المنطقى- العقيدى:
وهو منظور تتوقف فيه النتائج على نوع المقدمات الاعتقادية المختارة:
فإذا كانت المقدمة الاعتقادية هى أن الله هو الخالق العادل، فسنجد أن الاستدلال يمكن أن يجرى على النحو التالى: الله خالق كل شئ،
الله عادل فيما خلق،
عدل الله فى خلقه من البشر يقتضى أن يكون :
وكل البشر أحرار فى فكرهم وسلوكهم، حتى يمكن
محاسبتهم على أفعالهم،
وإذن فالمجتمع يتكون من أفراد متساوين جميعا وأحرار يملكون القدرة على اختيار مايفعلون. وعلى ذلك، فالسلطة فى مثل هذا المجتمع يجب أن يتقاسمها الجميع،
أي أن يشارك الجميع فى صياغة القرار السياسي بمختلف مستوياته، بما فى ذلك، الأشكال المؤسسية المنظمة لهذه المشاركة، والاجراءات العملية التى تتطلبها مثل الانتخاب وفصل السلطات وتداول السلطة، وهذه هى مكونات الديمقراطية. وإذا كانت المقدمة الاعتقادية مثلا هى علم الله بمصلحة البشر الذي يتمثل فى الشريعة فيمكن أن يجرى الاستدلال: الله عالم بما فيه مصلحة البشر،
الله وضع فى الشريعة كل ما يحتاجه البشر، إذن على الانسان أن يطيع أوامر الله، كما يحددها أهل العلم من المتخصصين فى الدين حكم الشريعة يجب أن يسود، وعلى الأفراد الطاعة
[حكم ثيوقراطي مناف للديمقراطية]
وهكذا يمكن للاستدلال المنطقي الاعتقادي أن يصل بنا إلى نتيجتين مختلفتين وفقا لمضمون المقدمة الاعتقادية المختارة. وإذا كان هذان المثالان من الأمثلة النظرية الافتراضية. فإننى أود هنا أن أعرض لاستدلال منطقى عقيدى هام، ورد فى مفاهيم قرآنية” للدكتور خلف الله هو استدلال الإمام الطوفى وهو حنبلى سلفى على أولوية المصلحة العامة على النص الدينى :
“من المحال أن يراعى الله عز وجل مصلحة خلقه فى مبدئهم، ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم فى الأحكام الشرعية، إذ هى أهم، فكانت بالمراعاة أولى. ولأنها أيضا من مصلحة معاشهم، لأنها صيانة أموالهم ودمائهم، وأعراضهم، ولا معاش لهم بدونها. فوجب القول بأنه راعاها لهم. وإذا ثبتت رعايته إياها لم يجز اهمالها بأى وجه من الوجوه. فإن وافقها النص والاجماع وغيرها من أدلة الشرع، فلا كلام. وإن خالفها دليل شرعى وفق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه وتقديمها بطريق البيان.. لذلك، فالمصلحة من أدلة الشرع، وهى أقواها وأخصها، فلنقدمها فى تحصيل المصالح” (112).
والأمر الواضح هنا أننا إذا وجدنا النظام الديمقراطى أكثر تحقيقا للمصالح العامة، وجب- شرعا- الأخذ به.
3- منظور التاريخ الاسلامى:
هناك فترة وجيزة فى التاريخ الاسلامى، لا تزيد عن ربع قرن من حوالى أربعة عشر قرنا هى عمر الاسلام، يتم تقديسها على نحو خاص ومتفرد.
فالغالبية العظمى من الكتاب تميل إلى استثناء الفترة المعاصرة للنبوة والخليفتين أبوبكر وعمر، من أية خصائص عامة تنطبق على التاريخ البشرى عموما بما فيه- بطبيعة الحال- مجتمعات الجزيرة العربية فى القرن السابع (الأول الهجرى).
كما أن هناك فترة أخرى، يميل البعض إلى تمجيدها، هى القرن العاشر الميلادى (الرابع الهجرى)، الذى شهد حركة فكرية وعلمية متفردة. على اعتبار أنها فترة الازدهار الحضارى التى أثرت فى أوربا واستمدت منها حضارتنا الراهنة. تعتبر هاتان الفترتان إذن، ممثلتان للاسلام، بينما يعتبر باقى التاريخ انحرافا عن الاسلام الحقيقى. وهذا الموقف ينطوى على تحيز أيديولوجى واضح. وقد تـتـناقض فرضياته- فى أحيان كثيرة- مع الوقائع التراثية التى وردت فى كتابات القدماء خاصة- حول تلك الفترات من التاريخ.
على أن ما يميز التاريخ الاسلامى خاصة هو اتخاذ الصراع الاجتماعى والسياسى فيه صيغة دينية. ولعل هذه الخاصية تعود إلى واقعة- ربما كانت هى نفسها متفردة أيضا- هى تأسيس النبى لما يمكن تسميته فى العصر الحديث بالدولة. الأمر الذى أدى إلى تشابك الدينى والدنيوى وإلى دمج السلطة الزمنية والدينية معاً فى السلطة السياسية. ولعل ذلك هو الأصل التاريخى للمقولة التى شاعت فى العصر الحديث من أن الاسلام دين ودولة. وهى مقولة تتسم- رغم شيوعها- بالالتباس الشديد. إذ هى لا توضح ما إذا كانت التشريعات الدنيوية (المعاملات) فى الاسلام- هى ذاتها- دينا مقدسا وثابتا وملزما، أم أنها دنيوية بحتة متغيرة وفقا لشروط الزمان والمكان. وفى هذه الحالة هلى تعنى تلك المقولة أن الاسلام يتضمن الدين كما يتضمن شيئأ اخر غير الدين هو الدولة. أم أن الدولة- رغم أنها دنيوية بحتة- تظل داخل إطار الدين، رغم أننا نحن البشر من ننشئ هذه الدولة وننظمها ونشرع لها ونديرها!
ونفس هذا الموقف من التاريخ نجده- ربما بصورة معكوسة- لدى من يعتبرون أن الاسلام شئ والمسلمين شئ أخر، وأن تخلف المسلمين سببه تخليهم عن الاسلام. فالواقع أنهم يتحدثون هنا عن المشكلة الدائمة التى تتعلق بالمسافة بين ما يجب أن يكون وبين ماهو كائن بالفعل، بين المثال والواقع. لكن أليس من حقنا هنا أن نتساءل عما إذا كان المثال ذاته لا يضع شروط الواقع فى اعتباره، لذلك ظل مفارقا له.
كذلك فربما كان التأخر الملحوظ للبلاد والمناطق الاسلامية، وإن كان ليس من الصواب نسبته إلى الاسلام مباشرة، حيث أن عوامل عديدة أسهمت فى تلك الحالة؛ فإن من بين تلك العوامل كيفية تعامل المسلمين مع الدين، وخاصة مع الموروث الثقافى الدينى الذى مارس، لظروف تاريخية خاصة، هيمنة على كافة مجالات المعرفة
4- المنظور الأيديولوجى:
القرءة الأيديلوجية تعالج النص من خلال منظور غير ديني مستمد من تصورات ومفاهيم و رؤية فردية للعالم وللحياة بحيث يرى فى النص ما يعتقده هو لا مايقوله النص.
وبينما يفترض أن التفسير والتأويل كليهما يلتزمان بضوابط لغوية ومنهجية معينة، فإننا نجد أن القراءة الأيديولوجية تعفى نفسها من تلك الضوابط وتستنطق مفردات النص- كرها أو طوعا- بمفرداتها هى.
ويمكن تصور خطوات القراءة الأيديولوجية علي النحو التالي:
1- تبني منظومة معينة من التصورات والمعتقدات , تنشأ -عادة- بعيدا عن التعامل مع النص الديني , أي في سياق معرفي وثقافي واجتماعي ينتمي لعصر مغاير تماما لزمن ورود النص. 2- توظيف تلك المنظومة في تكوين تصور معين للمسألة الدينية و لما يجب أن يكون عليه النص الديني ,أي ما يجب أن يحتويه من مبادئ وحقائق و نظم في مختلف المجالات . 3- البحث عما يؤيد ذلك التصور فيما ورد في النص الديني من كلمات أو عبارات أو إشارات هنا و هناك, و فصلها عن سياقها اللغوي والوقائعي , حتى يمكن تحميلها بالمعني المراد الوصول إليه.
.وقد يكون ذلك المنظور ليبراليا مثلما نجد فى مدرسة محمد عبده وامتداداته الفكرية، ومثلما نجد فى فكر محمد خاتمى فى كتابه “الاسلام والعالم”.
وقد يكون اشتراكيا مثلما كان لدى عمار أوزيجان الجزائرى فى “الجهاد الأفضل” ، ولدى سلمان غانم الكويتى المعاصر، ولدى جمال البنا فى كتاباته العديدة.
وقد يكون أصوليا، يتبنى مبدأ الحاكمية لله ويستبعد البشر تماما من أى عملية تشريعية، ويضع التشريع الالهى فى مواجهة التشريع الوضعى.
وأخيرا، قد يكون علمانيا مثلما نجد أيضا فى بعض مواقف وفكر خاتمى، وفى تيار الاسلام النقدى الذى يمثله فى الفكر المعاصر: أركون، وخليل عبد الكريم، و نصر أبوزيد، وغيرهم.
وفى كل حالة من تلك الحالات نجد أن الاسلام يتغير مضمونه وفقا لنوع الأيديولوجيا التى يتبناها الباحث. ويتغير بالتالى الموقف مما إذا كان الاسلام يتوافق مع الديمقراطية أم يتنافى معها. وأود أن أشير على وجه السرعة إلى فكر خاتمى الذى يمكن نسبته إلى كل من التيار الليبرالى والتيار العلمانى رغم أنه أساسا إسلامى العقيدة.
فهو يعتقد أن السبيل إلى معرفة الله هو القلب لا الفهم (28)، وأنه سبيل فردى لا جماعى، وأن ثمة تباينا فى تصوراتنا عن الدين، وأن العقل هو سبيل الفهم. وأن معارفنا جميعا- بما فيها المعرفة الدينية- نسبية الطابع تتغير بتغير شروط الزمان والمكان. فهو يرى “أن تصورات الانسان عن الطبيعة وعن الدين قابلة للتغير والتحول، طالما أنها شأن بشرى “لاطبيعى” وفى جوهره “لادينى” (34).
يقول خاتمى: ماذا نفهم من الدين. أهو سبيل إلى السعادة الأخروية ولا علاقة له بحياة الانسان فى هذا العالم إلا فى حدود ألا يخل بالهدف السامى والكلى والأصيل والأخروى:” لئن كانت الاجابة بالايجاب. فمعنى ذلك أن أمر الحكومة يعود إلى ما يقرره الانسان ويشخصه. وعلى هذا النوع من فهم الدين، وبناء على هذه الرؤية، نجد أن الدين لا ينسجم والديمقراطية وحسب، بل وينسجم مع العلمانية والليبرالية… وفى موضع آخر يقول: فيما يتعلق بمسألة الدولة، فإن الدين قد حدد الضوابط الأساسية والاطار العام، وأما الحكومة فأمر مرجعه إلى الناس…
وفى نظرة دينية، سنرى أن الناس هم من يوجه إليهم الخطاب، وأنهم هم المطالبون بإقامة العدل والاحسان… واقرار الحكومة واستقرارها يرجع إلى إرادة الناس. فإذا رأت الأكثرية نوعا معينا من الاسلام فسيعمل به فى الأمور الاجتماعية. وإذا قلنا بحق الناس فى ذلك فإن علينا منح الحرية لبقية الآراء، والحكومة مسئولة أمام الناس. ولا يحق لأحد أن يفرض الحكومة على الناس، وللناس حق مساءلة الحكومة، وللأفكار أن تطرح على المستوى العام، والرأى الذى تقف الأغلبية إلى جانبه يجب أن يسود. والحكومة وإن كانت محقة ورفضها الناس تفقد شيئا من شرعيتها…(89). وأخيرا,فإن على المفكرين الاسلاميين عرض أفكارهم، فإن قبل بها الشعب وأرادوها تولوا السلطة وإلا فلا، إذ لا يمكن فرض ذلك عليهم