خلال محاكمة لا تشبه المحاكمات ، ومحكمة لا تشبه المحاكم وفاة أول وأخر رئيس مصري منتخب
“الوطنية هي الملاذ الأخير لكل الانذال”
صموئيل جونسون
في مبنى كان السجناء السياسيين قبل ثورة يناير يتخوفون من أن يتم ارسالهم اليه ، حيث إشتهر كأحد بؤر التعذيب خلال حكم الدكتاتور المخلوع حسني مبارك ، توفي الرئيس الأسبق محمد مرسي ، في نفس المبنى ، لكن بعد أن تحول جزء منه إلى محكمة.
في قفص زجاجي ، داخل قفص حديدي ، داخل محكمة ، داخل مبني معهد أمناء الشرطة التابع لوزارة الداخلية ، توفي الرئيس الاسبق محمد مرسي عقب حديثه أمام القضاء بدقائق خلال محاكمته في قضية لا ملامح أو أدلة عليها، وهو من وصل لسدة الحكم بطريقه لم يصل رئيس للحكم بمثلها ، قبله او بعده ،حيث وصل للحكم بانتخابات حقيقية.
قصة تحول مبنى معد بالأساس لتدريب أمناء الشرطة ، ثم اصبح بسبب وجوده في محيط أشهر منطقة سجون في مصر – منطقة سجون طره – بؤرة لتعذيب السجناء السياسيين خلال حكم حسني مبارك ، ثم تحويل جزء منه إلى محكمة خاصة للسجناء السياسيين ، عقب الاطاحة بالرئيس الاسبق محمد مرسي واستيلاء الجيش على الحكم ، قصة تشبه إلى حد بعيد قصة ثورة 25يناير في مصر.
فالثورة التي رفعت بالأساس شعارات مدنية وعلمانية تعلي من شأن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية ، ما لبثت أن شهدت رفع شعارات دينية ، بعد أن تم التواطؤ عليها من تحالف تم بين المجلس العسكري والاخوان المسلمين والسلفيين ، ثم اتفاق أقرب لصفقة لتمرير حكم الاخوان المسلمين ، ثم سرعان ما تم الانقلاب عليها وبات الداعمين لها والمؤمنين بها ، متهمين وملاحقين ، لاسيما بعد تحذير الجنرال السيسي الصريح لهم من أن ” ما حدث منذ سبعة سنوات ، لن يحدث مرة أخرى”.
ومثلما أثار مجيئ الرئيس الأسبق محمد مرسي للحكم جدلا شديدا ، حيث تم ترشيحه رغم اعلان الاخوان المسلمين انهم لن يقدموا مرشحا للرئاسة ، وكبديل احتياطي فيما اذا تم رفض ترشيح رجل الاخوان المسلمين القوي “خيرت الشاطر” والذي بالفعل تم رفض ترشحه بسبب احكام سابقة عليه ، جاءت وفاته لتشعل جدلا جديدا حول ظروف وفاته المأساوية ، خلال محاكمته على اتهامات لم يثبت تورطه بها ” التخابر مع حركة حماس” وحرمانه من أبسط حقوق السجناء ، ولا أدل على ذلك من انعدام المساواة مع رئيس أسبق اخر “حسني مبارك” حيث ظروف سجن يغار منها السجناء في اسكندنافيا ، من الاحتجاز بأجنحه فخمة بارقى المستشفيات ، وزيارات عديدة من محبيه وأنصاره ، ومعاملة مليئة بالاحترام من رجال الشرطة والقضاء ووسائل الاعلام!.
السجن
ظروف احتجاز الرئيس الراحل محمد مرسي لم تكن كذلك على الاطلاق ، حيث كان سجينا انفراديا لأوقات طويلة ، ومحروما لأكثر من سنة من زيارة ذويه ومحاميه ، والمعاملة القاسية والحاطة بالكرامة من رجال الشرطة ، وحفلت المحاكمات العديدة التي سيق اليها بتعنيف وغلظة من القضاة ، وسبه والتشهير به من الاعلام كان امرا معتادا.
ماكينات الدعاية الاعلامية الهائلة لنظام الجنرال عبدالفتاح السيسي ، والمزايدة بالوطنية بشكل فج ومبتذل ، كان لها أثرها الكبير ، ليس فقط على المواطنين البسطاء الذين تصوروا أن التحلي بالوطنية يساوي الصمت على القمع أو مناهض للنقد ، بل وصل أثرها للعديد من المثقفين والسياسيين ، بل والحقوقيين أنفسهم ، الذين أستنكروا دعوات سابقة للتنكيل بالدكتاتور المخلوع حسني مبارك خلال محاكمته، ثم تجاهلوا الظروف الغير انسانية والغير عادلة التي عاني منها محمد مرسي ،وبارك بعضهم هذا التنكيل بدرجة وصلت لحد انتقاد من أبدى تعاطفه الانساني أو رفضه القبول بهذه الظروف ، سواء ظروف سجنه و اهدار حقوقه كسجين أو حرمانه وحرمان أسرته من عمل جنازة وتقبل شعائر العزاء الواجبه.
رئيس الضرورة
لم يكن محمد مرسي كرئيس هو الاختيار الافضل للمصريين عقب ثورة يناير ، لكنه أصبح اختيار الضرورة تجنبا لعودة نظام حسني مبارك ممثلا في صديقه المقرب ورئيس وزراءه “احمد شفيق” ، لذلك كان نجاحه بنسبه محدودة “نحو 52%” وبدعم الكثير من مؤيدي ثورة يناير ” ممن عرفوا ب”عاصري الليمون” وهم من اضطروا لمنحه صوتهم في الجولة الثانية من الانتخابات رفضا لعودة نظام مبارك ممثلا في احمد شفيق وليس دعما له أو لجماعة الاخوان المسلمين.
ومثلما نكص الاخوان عن وعودهم بعدم الترشح للرئاسة ، نكص مرسي عن وعوده ، ومالأ المجلس العسكري وكرم قياداته وعين المسئول عن اجراء كشوف العذرية لفتيات مصر وزيرا للدفاع ، بعد أن وصفه قيادات جماعة الاخوان المسلمين ” بالملتزم والصوام والمتدين والقوام” ! ثم استن اعلان دستوري يمنحه صلاحيات الهية ، وعصف باستقلال القضاء عبر عزل النائب العام ، فسرعان ما انهارت شعبيته الهشة اساسا ، مانحا أعداء الثورة واعمدة النظام السابق الفرصة ليؤججوا الصراع وينظموا انفسهم للانقضاض ليس عليه وعلى جماعته فقط ، بل وعلى ثورة يناير وانصارها ، بعد أشهر قليلة من اعلانه الدستوري.
من يسدد الفاتورة؟
يوضح عدد شهداء ثورة يناير مدى عداء وجرم الانظمة المتعاقبة ضدها ، فهي طبقا لاحصائيات وتقديرات الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان كانت :
نحو 841 شهيد خلال 18 يوما هي فترة ثورة ينايرتحت حكم حسني مبارك.
حوالي 215 شهيد خلال 18شهرا عقب ثورة يناير تحت حكم المجلس العسكري.
ما يقرب من 154 شهيدا خلال عام تحت حكم الرئيس مرسي وجماعة الاخوان المسلمين.
ما لا يقل عن 632 شهيد خلال فض اعتصام ميدان رابعة العدوية خلال حكم الرئيس المؤقت وقيادة وسيطرة الجنرال السيسي.
هذه الارقام تعد مؤشرا على مدى جرم كل طرف ، إلا ان استتباب الأمر ومقاليد الحكم للجنرال السيسي ، وعبر السيطرة على الاعلام وتراجع استقلال القضاء ، وفي ظل نظام الخوف المسيطر على مصر ، بات على الجميع أن ينسبوا كل الجرائم لجماعة الاخوان المسلمين ممثله في الرئيس المنتمي لها ، محمد مرسي. بغض النظر عن اقتصار سيطرته على مقاليد الحكم على عام واحد فقط ، وان المنطق يقول أن على قيادات كل نظام أن يسددوا فاتورة اعمالهم ، لكن هذا لم يحدث.
أجرم محمد مرسي سياسيا ، نعم ، لكنه لم يكن المجرم الوحيد أو المجرم الأول، لكن إن طوعا أو جبرا ، صار مطلوبا أن ينصاع الجميع لإرادة السلطة الجديدة ، سلطة الجنرال السيسي.
وأصبحت الأصوات التي تطالب بمعاملة أدمية وأنسانية ، او حتى قانونية للسجين محمد مرسي ، نشازا ومطعون في وطنيتها ومتهمة بالدفاع عن الاخوان!.
الاطاحة بدكتاتورية محتملة لصالح دكتاتورية واقعية
يجزم العديد من خصوم وأعداء محمد مرسي وجماعة الاخوان المسلمين ، ان حكم مرسي لو استمر أكثر من هذا العام ، كانت مصر ، حتما ، ستتردي لأفغانستان تحت طالبان ، او ستتمزق كسوريا تحت حكم داعش وبشار ، أو ليبيا تحت حكم الميلشيات الاسلامية ، مدعمين رؤيتهم ببعض المؤشرات التي ظهرت خلال هذا العام ، مثل الصمت على التحريض ضد الشيعة المصريين ، وتصاعد الخطاب المتطرف والمتشدد من السلفيين الجهاديين ، وبعض الاحداث الطائفية ، بل واستخدام الهجمات العديدة على الكنائس التي اعقبت فض اعتصام رابعة ، للتدليل على المأل المتردي لو تمكن الاخوان من الحكم.
لكنهم لم يتمكنوا من احكام سيطرتهم ، كانت أغلب الامثلة أو الأدلة على ما قد يحدث ، احتمالية و توقع.
تم الاطاحة بمرسي ، وتولي السيسي .
ومنذ توليه ، وحتى يومنا ، لم يتوقف التدهور والتردي في الحقوق والحريات ، انتهاكات لم تستثني فئة أو فريق .
انتهاكات ليست مستترة ، او غير مباشرة ، بل صريحة ومتوحشة ، تبدأ من المصادرة ومنع الصحفيين والكتاب المنتقدين ، وصولا للقتل الصريح وخارج القانون في سيناء ، مرورا بالاختفاء القسري والمحاكمات الغير عادلة وسجن الصحفيين ، تلفيق القضايا ضد المجتمع المدني ، ومنع قياداته من السفر وتجميد اموالهم ، بل وتوظيف قطاعات من القضاء وجهاز العدالة في خصومته لدعاة الديمقراطية .
صارت الوطنية هي الاشادة بأفعال السيسي ، حيث السيسي هو الوطن ، هو الدولة! ومن ثم فالخيانة والعمالة مصير المنتقدين ، لايهم مجال عملك ، اقتصادي أو سياسي أو حقوقي أو حتى فني وثقافي.
السيسي يفهم في كل شيئ!
“أنا لم أعدكم بشيئ” ، “متسمعوش كلام حد غيري” ، ” صبح على مصر بجنيه” ، “لدينا انجازات كثيرة.. لكننا نخفيها عن الأشرار” .
هذه بعض من أقواله المأثورة ، والتي يرددها الاعلام بشكل شبه يومي.
ورغم مرور نحو ستة أعوام على مطالبته للمصريين بمنحه تفويضا لمحاربة الارهاب المحتمل ، فقد تزايدت الجرائم الارهابية ، بشكل واسع ، ومازالت ! مما حدى بالعديد من انصار ثورة يناير والمدافعين عن الديمقراطية أن يعبروا عن رأيهم ، من ان الحرب الحقيقية التي يخوضها السيسي ، هو الحرب على ثورة يناير والديمقراطية.
و لماذا يستمر نظام السيسي؟
فتش عن الاخوان المسلمين ، فمثلما أتى به الاخوان المسلمين ، لانه ” ملتزم وصوام ومتدين وقوام” ، فالكراهية والامعان في العداء لأسباب “دينية” والمبالغة في تعظيم وتمجيد نظام دكتاتوري أخر في تركيا “نظام اردغان” ، واعلان العديد من اتباعهم وانصارهم في اعلان العداء للعلمانية ، ورفض الاعتراف بجرائمهم خلال فترة حكمهم ، فضلا عن الشماتة في أغلب رموز التيار المدني والديمقراطي الذين راحوا ضحية نظام السيسي القمعي ، بالاضافة لنجاح نظام السيسي في إلصاق الجرائم الارهابية للمتطرفين الاسلاميين ، جعلت العديد من المعارضين والمنتقدين لسياسات ونظام السيسي ، يقعون بين شقي الرحي: القمع العسكري ممثلا في نظام السيسي ، او القمع الديني تحت نظام حكم اخواني ؟!
معضلة واختيار صعب ، لكنه يصب في مصلحة النظام العسكري ، لانه لن يعاقبك على مأكلك ومشربك وملبسك ، بل فقط اذا تناولت الحياة السياسية.
أما النظام الاخواني الديني من خلال تصوره ، فسوف يحاسبك على ملبسك ومشربك ، بل وما تعتنقه في قلبك ، وبالطبع تكفيرك والصاق تهمة الكفر بك اذا انتقدت نمط وطريقة الحكم الديني.
لعل هذا يفسر الحجم الهائل من الكراهية والخوف التي يكنها الكثير من المصريين ” ولاسيما المسيحيين والقوميين” لحكم الاخواني الاسلامي.
لذلك ، لم يكن غريبا أن يتنفس الكثير منهم الصعداء ، بوفاة الرئيس الاسبق محمد مرسي ، ليس بالضرورة ، لعداء شخصي له ، بل لان وفاته قد تغلق الباب امام دعاة الدولة الدينية ومطالبتهم بالشرعية وعودة الحكم “للرئيس الشرعي” ، فقد توفي الرئيس الشرعي ” على الاقل من وجهة نظرهم”.
وماذا بعد؟
هو مأزق للسيسي ، فتراجع العمليات الارهابية “بسبب فقدان اجنحة متشددة لشعار الرئيس الشرعي” سوف ينزع عنه المبرر والغطاء المستخدم للقمع وتغييب الحريات ، وهو الارهاب.
وتزايد العمليات الارهابية “لأسباب انتقامية” سوف تزيد الغضب الشعبي نتيجة الفشل في التصدي للارهاب رغم حصوله على تفويض شعبي لمحاربته منذ ستة أعوام.
أما عن جماعة الاخوان ، فوفاة مرسي ، رغم أنها قد تعزز مواقف الاجنحة المتشددة التي تؤيد ممارسة العنف ، لكنها على جانب اخر ، تمنح الاجنحة الأوسع ولاسيما السجينة ، دافعا لمد جسور التفاوض مع نظام السيسي ، لاسيما وقد انتهت مرحلة شعار الشرعية ، الذي كان مرتبطا بوجود وحياة الرئيس الراحل محمد مرسي.
وفيما يتعلق بحركة المطالبة بالديمقراطية ، فوفاة مرسي ، تزيد من العبئ عليها رغم حالة الوهن التي اصابتها جراء حملات القمع والملاحقة التي تستهدفها بدءا من عام 2016 ، حيث امكانية التصالح بين السيسي وجماعة الاخوان بما يعني توحد أعداء الديمقراطية ضدها ، أما اذا تزايدت العمليات الارهابية ، فسوف يستمر استخدام السيسي لها كمبرر وذريعة للتمادي في القمع ومن ثم تزايد الوهن والتشتت بين صفوفها.
لذلك ، فوفاة محمد مرسي ، تعد متغير كبير في عملية الصراع ، قد يسفر عن تغييرات كبيرة في شكل وقواعد اللعبة السياسية في مصر ، أما متى ومن يبدأ هذا التغيير ، هذا ما نتوقع أن نشهده في الأشهر القادمة.
جمال عيد
محامي ومدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
مقال تم نشره على موقع “بابليك سيمنار ، التابع لجامعة نيو سكول في نيويورك”
الرابط للمقال الاصلي باللغة الانجليزية: